76ـ كلمة شهر جمادى الثانية 1434هـ: أما تُرضيك هذه الآية الكريمة؟

76ـ كلمة شهر جمادى الثانية 1434هـ: أما تُرضيك هذه الآية الكريمة؟

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا أيُّهَا الإخوَةُ الكِرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وهوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، ولا يُعجِزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا فِي السَّماءِ وهوَ السَّميعُ العَليمُ، فَهوَ تَبارَكَ وتعالى قَادِرٌ على نُصرَةِ المَظلومِ، وقادِرٌ على إهلاكِ الظَّالِمِ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾.

ولكن لِحِكمَةٍ أرادَها اللهُ تَعالى أن أخَّرَ نَصْرَهُ للعَبدِ المَظلومِ، ولذلكَ وَجَبَ على العَبدِ أن يَصبِرَ كما صَبَرَ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكما صَبَرَ الأنبياءُ والمرسَلونَ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ من قَبلِهِ، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين﴾.

صَبرٌ مَمزوجٌ بالأمَلِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: صَبْرُ المُؤمنِ هيِّنٌ سَهلٌ بفضلِ الله تعالى، لأنَّهُ مَمزوجٌ بالأمَلِ، وكيفَ لا يكونُ كذلكَ واللهُ تعالى هوَ الآمِرُ بالصَّبرِ، والضَّامِنُ لِنتَائِجِهِ؟

ألم يَقُل مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بالله﴾؟ ألم يَقُل مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين﴾؟ ألم يأمر ربُّنا عزَّ وجلَّ أن نُبَشِّرَ الصَّابِرينَ بقولِهِ: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾؟

يقولُ الإمامُ الغزاليُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِذَا رَأَيْت اللهَ يَحْبِسُ عَنْك الدُّنْيَا وَيُكْثِرُ عَلَيْك الشَّدَائِدَ وَالْبَلْوَى فَاعْلَمْ أَنَّك عَزِيزٌ عِنْدَهُ، وَأَنَّك عِنْدَهُ بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُ يَسْلُكَ بِك طَرِيقَ أَوْلِيَائِهِ، أَمَا تَسْمَعُ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا﴾.

أما تُرضيكَ هذهِ الآيَةُ الكريمَةُ؟

يا أيُّها الإنسانُ المؤمنُ: أما يُرضيكَ قولُ الله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾؟ لو قالَ لكَ إنسانٌ عزيزٌ عليكَ وهوَ قادِرٌ: أنتَ بِعَينِي. كيفَ يكونُ حالُكَ؟ فكيفَ إذا كانَ القائِلُ الذي هوَ على كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ؟ فَكَيفَ إِذَا كَانَ القَائِلُ هوَ أرحَمُ بِعَبدِهِ من الأمِّ على وَليدِها؟

كُن على يَقينٍ بِأنَّكَ في العِنايَةِ والرِّعايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فإذا ما وَسوَسَ لكَ الشَّيطانُ فأسرِعْ إلى ذِكرِ قولِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا﴾. لأنَّ هذهِ الآيَةَ تَصرَعُ شياطينَ الإنسِ والجِنِّ، كما يَصرَعُ شياطينُ الإنسِ والجِنِّ أهلَ الغَفلَةِ في سَاعاتِ الابتِلاءِ.

أعظَمُ من اتَّصَفَ بالصَّبرِ:

يا أيُّها الإنسانُ المؤمنُ: أعظَمُ من اتَّصَفَ بالصَّبرِ هوَ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لقد صَبَرَ على التَّعذيبِ والتَّنكيلِ والتَّشريدِ والاتِّهامِ والتَّسفيهِ، لأنَّهُ على يقينٍ بقولِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا﴾.

وتَجَلَّت هذهِ العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بعدَ يومِ الطَّائِفِ، عندما خاطَبَ ربَّهُ عزَّ وجلَّ: «إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي» رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر رَضِيَ اللهُ عنهُ. حيثُ كانت بعدَ مِحنَةِ الطَّائِفِ مِنحَةُ الإسراءِ والمِعراجِ.

تَجَلَّت هذهِ العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يومَ الهِجرَةِ من أحَبِّ بلادِ الله تعالى إليهِ إلى المدينَةِ المنوَّرَةِ، وأدرَكَهُ الطَّلَبُ، فقال لِصاحِبِهِ: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾. وكفاهُ اللهُ تعالى شَرَّهُم وكَيدَهُم.

تَجَلَّت هذهِ العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عندما وُضِعَ على رأسِهِ الشَّريفِ جَزورٌ، وجاءتِ السَّيِّدَةُ فاطمةُ رَضِيَ اللهُ عنها تبكي، فقال لها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا فَاطِمَة لا تَبكِي فإِنَّ اللهَ مانِعٌ أَبَاكِ» وبِحَقٍّ كانَ اللهُ تعالى مَانِعاً سيِّدَنَا رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنهُم، حتَّى كَانَتِ الغَلَبَةُ لهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وظُهُورُهُ عَليهِم.

مَن صَبَرَ بِصِدقٍ مُنِحَ الوَصلَ:

نَعَم، أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مَن صَبَرَ بِصِدقٍ، وصَدَقَ بِصَبرٍ جَاءَهُ الوَصلُ ومُنِحَ الوِصَالَ، وصَارَ الصَّابِرُ مَحبُوبَاً عِندَ اللهِ تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾. ومَن أَحبَّهُ اللهُ تعالى نَالَ الوَصلَ ومُنِحَ الوِصَالَ، كَمَا جَاءَ في الحدِيثِ القُدسيِّ: «فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ به، وبَصره الذي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ التي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ التي يمْشِي بها، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

خاتمة ـ نسألُ الله تعالى حُسنَ الخاتمة:

إخوتِي الكِرَام: استَحضِرُوا قولَ اللهِ تَعالى دَائِمَاً وأبَداً وخَاصَّةً فِي الشَّدَائِد: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾. وانظُرُوا إلى الُّلطفِ الرَّبَّانِيِّ المَمزُوجِ بِالشَّدَائِدِ، وصَدَقَ ابنُ عَطَاءِ اللهِ السَكَندَرِيِّ القَائِلِ: (مَن ظَنَّ انفِكَاكَ لُطفِ الله عَن قَدَرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ).

إخوَتِي لِنُكثِرْ مِن دُعَاءِ سَيِّدِنَا الحَسَنِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُما:

إِلَهِي. نَعَّمتَنِي فَلَم تَجِدنِي شَاكِرَاً.! وَابتَلَيتَنِي فَلَم تَجِدنِي صَابِرَاً، فَلا أَنتَ سَلَبتَ النِّعمَةَ بِتَركِي الشُّكرَ وَلَا أَدَمتَ الشِّدَّةَ بِتَركِي الصَّبرَ. إِلَهِي مَا يَكُونُ مِنَ الكَرِيمِ إلَّا الكَرَمُ.

نَسأَلُكَ يَا رَبَّنَا تَعجِيلَ الفَرَجِ. آمين. وسَلامٌ على المُرسَلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ.

أخوكم أحمد شريف النعسان

  يرجوكم دَعوةً صالِحةً بظهرِ الغَيبِ

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/جمادى الثانية/1434هـ، الموافق: 11/نيسان / 2013م

 2013-04-11
 18747
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

13-03-2024 135 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 135
09-02-2024 448 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 448
13-01-2024 279 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 279
14-12-2023 386 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 386
16-11-2023 500 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 500
16-09-2023 527 مشاهدة
205ـ كيف لا نحب الحبيب صلى الله عليه وسلم!

مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد

 16-09-2023
 
 527

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411977514
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :