68-مع الصحابة وآل البيت:الأخلاق تصنع الأعاجيب

68-مع الصحابة وآل البيت:الأخلاق تصنع الأعاجيب

.

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

68ـ الأخلاق تصنع الأعاجيب

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الكَثِيرُ مِنَ المُسْلمِينَ جَهِلُوا الصِّلَةَ الوَثِيقَةَ بَيْنَ الأَخْلَاقِ الحَسَنَةِ وَالدِّينِ، مَعَ أَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خُلُقٌ، وَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ في الأَخْلَاقِ زَادَ عَلَيْكَ في الدِّينِ.

وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِحُسْنِ الأَخْلَاقِ، وَيَتَعَوَّذُ مِنْ سُوءِ الخُلُقِ، روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَأَحْسِنْ خُلُقِي».

وفي رِوَايَةٍ كَانَ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وفي رِوَايَةٍ كَانَ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَالْأَعْمَالِ وَالْأَدْوَاءِ» رواه الحاكم عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَمِّهِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ، مَعَ شَهَادَةِ اللهِ تعالى لَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. لِأَنَّ الخُلُقَ الحَسَنَ يُرْضِي عَلَّامَ الغُيُوبِ، وَيُوصِلُ إلى الدُّخُولِ لِلْقُلُوبِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً﴾. وَمِنْ أَعْظَمِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ حُسْنُ الخُلُقِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ البَشَرِيَّةَ اليَوْمَ في عَرْضِ الدُّنْيَا وَطُولِهَا تَحْتَاجُ إلى مَنْ يَقِفُ مَعَهُمْ وَيُعِينُهُمْ على إِزَالَةِ الهَمِّ وَالقَلَقِ عَنْهُمْ، وَإلى مَنْ يَدُلُّهُمْ إلى طَرِيقِ السَّعَادَةِ وَالرَّاحَةِ النَّفْسِيَّةِ، بِحَاجَةٍ إلى مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِمْ إلى طَرِيقِ النَّجَاةِ وَالأَمَانِ.

البَشَرِيَّةُ اليَوْمَ تَغْرَقُ في بَحْرِ الدُّنْيَا، يَلْهَثُونَ وَرَاءَ المَالِ وَالتِّجَارَةِ، وَوَرَاءَ الشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ، وَوَرَاءَ السِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ بِأَيِّ طَرِيقٍ وَبِأَيَّةِ صُورَةٍ، وَمَهْمَا كَانَ الثَّمَنُ، هَمُّهُمُ الوُصُولُ إلى المُرَادِ.

المُسْلِمُونَ هُمْ أَوْلَى البَشَرِ بِالأَخْلَاقِ الحَسَنَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: البَشَرِيَّةُ اليَوْمَ تَتَطَلَّعُ إلى الـمُبَشِّرِينَ، إلى أَصْحَابِ خُلُقٍ حَسَنٍ يَأْخُذُونَ بِأَيْدِيهِمْ لِيَأخُذُوهُمْ مِنَ الهَمِّ وَالقَلَقِ، لِأَنَّهُمْ مَا وَجَدُوا السَّعَادَةَ في المَالِ، وَلَا في الشَّهَوَاتِ، وَلَا في المَلَذَّاتِ.

وَبِكُلِّ أَسَفٍ صَارَتْ كَلِمَةُ التَّبْشِيرِ شِعَارَاً للـمُنَصِّرِينَ فَتَسَمَّوْا بِهِ وَتَمَثَّلُوهُ، أَلَيْسَ المُسْلِمُونَ هُمْ أَوْلَى بِالتَّبْشِيرِ وَالأَخْلَاقِ الحَسَنَةِ؟

أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْـمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾؟

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَـسِّرُوا وَلَا تُـعَسِّرُوا، وَبَـشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا»؟ رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أَلَسْنَا كَمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِالتَّلَطُّفِ وَالتَّوَدُّدِ إلى النَّاسِ؟ أَوَلَسْنَا أَوْلَى بِالتَّحَلِّي بِالأَخْلَاقِ وَبَثِّ الأَمَلِ في النُّفُوسِ؟ لِمَاذَا هَذَا الجَفَاءُ وَالإِعْرَاضُ؟ لِمَاذَا هَذَا التَّغْيِيرُ وَالانْقِبَاضُ؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَنْ قَرَأَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي جَسَّدَ الإِسْلَامَ وَالقُرْآنَ سُلُوكَاً وَعَمَلَاً لِيَعْجَبَ أَشَدَّ العَجَبِ مِنْ عَظَمَةِ هَذَا الدِّينِ، وَدِقَّةِ مُرَاعَاتِهِ للمَشَاعِرِ وَالعَوَاطِفِ، وَحِرْصِهِ على نَشْرِ المَحَبَّةِ وَالمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ.

الأَخْلَاقُ تَصْنَعُ الأَعَاجِيبُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ النُّفُوسُ أَيَّاً كَانَتْ، وَمَهْمَا بَلَغَتْ مِنَ الانْحِلَالِ وَالانْحِرَافِ وَالبَغْيِ وَالتَّجَبُّرِ وَالعَنَادِ وَالفَسَادِ وَالإِفْسَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا خَيْرٌ قَدْ لَا تَرَاهُ العُيُونُ أَوَّلَ الأَمْرِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا وَيُولَدُ على الفِطْرَةِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ العَطْفَ وَالشَّفَقَةَ وَالعِنَايَةَ بِهِمْ، وَأَظْهَرَ الأَخْلَاقَ الحَسَنَةَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَتَفَجَّرُ يَنَابِيعُ الخَيْرِ في نُفُوسِهِمْ، وَسَيَمْنَحُونَهُ الحُبَّ وَالثِّقَةَ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَنْظُرْ إلى الأَخْلَاقِ كَيْفَ أَنَّهَا تَصْنَعُ الأَعَاجِيبَ، هَذَا سَيِّدُنَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرْضَاهُ، قَبْل إِسْلَامِهِ وَرِثَ عَدَاوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَاتَلَ المُسْلِمِينَ في كُلِّ مَوْطِنٍ، وَتَصَدَّى لَهُمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، ثمَّ فَرَّ إلى اليَمَنِ؛ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ، فَتَأْتِي زَوْجَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بَعْدَ إِسْلَامِهَا مُبَاشَرَةً تَطْلُبُ الأَمَانَ لِزَوْجِهَا مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ لَهُ: أَمِّنْهُ أَمَّنَكَ اللهُ.

فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، وَرُوحِي الفِدَاءُ لَـهُ ـ: «هُوَ آمِنٌ».

ثمَّ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ: «سَيَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنَاً مُهَاجِرَاً، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ المَيْتِ يُؤْذِي الحَيَّ وَلَا يَبْلُغُ المَيْتَ».

وَقَفَ عِكْرِمَةُ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ أُمَّ حَكِيمٍ أَخْبَرَتْنِي أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي.

فَقَالَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَتْ، فَأَنْتَ آمِنٌ».

فَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَامَ تَدْعُو يَا مُحَمَّدُ؟

قَالَ: «أَدْعُوكَ إلى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ تُؤْتِيَ الزَّكَاةَ.....» حَتَّى عَدَّ أَرْكَانَ الإِسْلَامِ كُلَّهَا.

فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللهِ مَا دَعَوْتَ إلا إلى حَقٍّ، وَمَا أَمَرْتَ إلا بِخَيْرٍ.

ثمَّ أَرْدَفَ يَقُولُ: قَدْ كُنْتَ فِينَا واللهِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُو إلى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ وَأَنْتَ أَصْدَقُنَا حَدِيثَاً، وَأَبَرُّنَا بِرَّاً.....

ثمَّ بَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ ثمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي خَيْرَ شَيْءٍ أَقُولُهُ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

فَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثمَّ مَاذَا؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَقُولُ: أُشْهِدُ اللهَ، وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ، أَنِّي مُسْلِمٌ مٌجَاهِدٌ مُهَاجِرٌ». فَقَالَ عِكْرِمَةُ ذَلِكَ.

عِنْدَ هَذَا قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اليَوْمَ لَا تَسْأَلُنِي شَيْئَاً أُعْطِيهِ أَحَدَاً إلا أَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ».

فَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا، أَو مَسِيرٍ أَوْضَعْتُ فِيهِ، أَو مَقَامٍ لَقِيتُكَ فِيهِ، أَو كَلَامٍ قُلْتُهُ في وَجْهِكَ أَو غَيْبَتِكَ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلَّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إلى مَوْضِعٍ يُرِيدُ بِهِ إِطْفَاءَ نُورِكَ، وَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالِ مِنْ عِرْضِي في وَجْهِي أَو أَنَا غَائِبٌ عَنْهُ».

فَتَهَلَّلَ وَجْهُ عِكْرِمَةَ بِشْرَاً وَقَالَ: أَمَّا وَاللهَِ يَا رَسُولَ اللهِ لَا أَدَعُ نَفَقَةً أَنْفَقْتُهَا في صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إلا أَنْفَقْتُ ضِعْفَهَا في سَبِيلِ اللهِ، وَلَا قِتَالَاً قَاتَلْتُهُ صَدَّاً عَنْ سَبِيلِ اللهِ إلا قَاتَلْتُ ضِعْفَهُ في سَبِيلِ اللهِ.

تَحَوُّلٌ رَهِيبٌ بِبَرَكَةِ الأَخْلَاقِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: بِبَرَكَةِ أَخْلَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَحَوَّلَ عِكْرِمَةُ مِنْ عَدُوٍّ للهِ وَرَسُولِهِ إلى مُحِبٍّ للهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ عَبْدَاً للهِ تعالى بَعْدَ أَنْ كَانَ عَبْدَاً لِنَفْسِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَلِعَصَبِيَّتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ صِلَةٌ بِكِتَابِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَاً وَنَهَارَاً، وَكَانَ يَضَعُ المُصْحَفَ الشَّرِيفَ على وَجْهِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تعالى: كَلَامُ رَبِّي، كِتَابُ رَبِّي. رواه الحاكم.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ بَرَّ عِكْرِمَةُ بِمَا قَطَعَهُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَهْدٍ، فَمَا خَاضَ المُسْلِمُونَ مَعْرَكَةً بَعْدَ إِسْلَامِهِ إلا وَخَاضَهَا مَعَهُمْ، وَلَا خَرَجُوا في بَعْثٍ إلا كَانَ طَلِيعَتَهُمْ.

وفي يَوْمِ اليَرْمُوكِ، أَقْبَلَ عِكْرِمَةُ على القِتَالِ إِقْبَالَ الظَّامِئِ على المَاءِ البَارِدِ في اليَوْمِ القَائِظِ؛ وَلَمَّا اشْتَدَّ الكَرْبُ على المُسْلِمِينَ في أَحَدِ المَوَاقِفِ، نَزَلَ عَنْ جَوَادِهِ، وَكَسَرَ غِمْدَ سَيْفِهِ، وَأَوْغَلَ في صُفُوفِ الرُّومِ، فَبَادَرَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ وَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا عِكْرِمَةُ، فَإِنَّ قَتْلَكَ سَيَكُونُ شَدِيدَاً على المُسْلِمِينَ.

فَقَالَ عِكْرِمَةُ، إِلَيْكَ عَنِّي يَا خَالِدُ، فَلَقَدْ كَانَ لَكَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَابِقَةٌ، أَمَّا أَنَا وَأَبِي فَقَدْ كُنَّا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ على رَسُولِ اللهِ، فَدَعْنِي أُكَفِّرْ عَمَّا سَلَفَ مِنِّي؛ ثمَّ قَالَ:لَقَد قَاتَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَأَفِرُّ مِنَ الرُّومِ اليَوْمَ؟! ... إِنَّ هَذَا لَنْ يَكُونَ أَبَدَاً؛ ثمَّ نَادَى في المُسْلِمِينَ: مَنْ يُبَايِعُ على المَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ عَمُّهُ الحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ في أَرْبَعِمَئَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقَاتَلُوا دُونَ فُسْطَاطِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَشَدَّ القِتَالِ، وَذَادُوا عَنْهُ أَكْرَمَ الذَّوْدِ.

وَلَمَّا انْجَلَتْ مَعْرَكَةُ اليَرْمُوكِ عَنْ ذَلِكَ النَّصْرِ المُؤَزَّرِ للمُسْلِمِينَ، كَانَ يَتَمَدَّدُ على أَرْضِ اليَرْمُوكِ ثَلَاثَةُ مُجَاهِدِينَ أَثْخَنَتْهُمُ الجِرَاحُ؛ هُمْ: الحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ،وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَدَعَا الحَارِثُ بِمَاءٍ لِيَشْرَبَهُ، فَلَمَّا قُدِّمَ لَهُ نَظَرَ إِلَيْهِ عِكْرِمَةُ؛ فَقَالَ: ادْفَعُوهُ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا قَرَّبُوهُ مِنْهُ نَظَرَ إِلَيْهِ عَيَّاشٌ: فَقَالَ: ادْفَعُوهُ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ عَيَّاشٍ وَجَدُوهُ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ.

فَلَمَّا عَادُوا إلى صَاحِبَيْهِ وَجَدُوهُمَا قَدْ لَحِقَا بِهِ؛ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ أَجْمَعِينَ، وَسَقَاهُمْ مِنْ حَوْضِ الكَوْثَرِ شَرْبَةً لَا يَظْمَأُونَ بَعْدَهَا، وَحَبَاهُم خَضْرَاءَ الفِرْدَوْسِ يَرْتَعُونَ فِيهَا أَبَدَاً.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمْسَةٌ حَانِيَةٌ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ نَقَلَتْ ابْنَ فِرعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ إلى صَفِّ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَتْهُ يَنْدَمُ هَذَا النَّدَمَ، وَيَعْزِمُ هَذَا العَزْمَ، وَيَتَحَوَّلُ هَذَا التَّحَوُّلَ.

أَلَيْسَ هَذَا مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا تُجَاهَ النَّاسِ الذينَ انْحَرَفُوا عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ؟

أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ لَنَا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾؟

أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ لَنَا: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾؟

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: « وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»؟ رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»؟ رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقَاً»؟ رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَسْأَلُكَ يَا مَولَانَا أَنْ تَرْزُقَنَا أَحْسَنَ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْزُقُ أَحْسَنَهَا إلا أَنْتَ، وَأَنْ تَـصْرِفَ عَنَّا سَيِّئَ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إلا أَنْتَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 23/ شوال /1437هـ، الموافق: 28/تموز / 2016م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم

13-03-2020 1395 مشاهدة
170ـ موقف الفاروق رضي الله عنه من شارب الخمر

نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد

 13-03-2020
 
 1395
13-02-2020 1953 مشاهدة
169ـ هكذا كان أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد

 13-02-2020
 
 1953
23-01-2020 2587 مشاهدة
168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد

 23-01-2020
 
 2587
16-01-2020 990 مشاهدة
167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد

 16-01-2020
 
 990
09-01-2020 1327 مشاهدة
166ـ حب سيدنا الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد

 09-01-2020
 
 1327
03-01-2020 1023 مشاهدة
165ـ صاحب رسول الله منذ أن بعث

زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد

 03-01-2020
 
 1023

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412913562
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :