17ـ كلمة شهر رجب 1429هـ: من سنن الله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}

17ـ كلمة شهر رجب 1429هـ: من سنن الله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. قاعدة وسنَّة من سنن الله تعالى التي لا تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، لم يقل مولانا إن بعد العسر يسراً، بل قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. لكي نعلم أن العسر لا بد أن يجاوره يسر.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) رواه الإمام مالك.

ومصداق هذا نجده في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم، من أول هذا العام إلى آخره، هذا العام أسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن.

ماذا حدث في هذا العام؟

أولاً: في هذا العام رحلت أم المؤمنين، وزوج المصطفى النبي الأمين، السيدة خديجة بنت خويلد، رحلت إلى جوار ربها الذي أرسل إليها السلام عن طريق جبريل عليه السلام، قال: (يَا رَسُولَ الله هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ) رواه البخاري ومسلم. وعندما بلَّغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تذهلها البشرى مع روعتها، وإنما أجابت بالعقل الوافر: (إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته) رواه النسائي في السنن الكبرى والحاكم.

رحلت إلى البشرى التي زفَّها لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رحلت إلى بيت في الجنة، رحلت الزوجة والأم، والرفيقة، والعضد، رحلت هذه الأم الفاضلة، والإنسانة الخالدة التي كانت خيرَ عون، وخيرَ رفيق، وخيرَ جليس، وخيرَ صديق.

رحلت الحبيبة التي احترمت النبي صلى الله عليه وسلم، وعظَّمته، ووقَّرته، وأحبَّته، وعضدته، ودثَّرته، وزمَّلته، ورافقته.

رحلت إلى جوار ربها مطمئنة النفس بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.

رحلت هذه السيدة الجليلة بعدما أن أسلمت الراية إلى ابنتها الطيبةِ الطاهرةِ، فاطمة الزهراء، بنتِ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رحلت الزوجة المؤمنة المحبة بعد أن أعانت النبي صلى الله عليه وسلم على احتمال أقسى الشدائد، وأصعبِ الأحداث، بعد أن قاطعته قريش وقست عليه، واضطرته أن يلوذ بالشِّعب، وعلَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وأعلنوا مقاطعةً ظالمةً باغيةً، دون رأفةٍ ولا مراعاةٍ لنسب أو جوار أو حقٍّ إنساني لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أمَّاه روحي الفداء لك، وجزاك الله عنا خير الجزاء، لقد وقفت مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تخلَّى عنه الناس، وأعطيتِه عندما حرمه الناس، ونصرتيه عندما خذله الناس، وصدَّقتيه عندما كذّبه الناس، وآمنت به عندما كفر به أكثر الناس، فبحقٍّ والله ما أبدله الله خيراً منك.

فأسأل الله تعالى أن يعطف قلبك علينا، وأن تكوني راضية عنا، وأن يحشرنا معك تحت لواء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: في هذا العام مات عمه أبو طالب قبل وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان حدث وفاته شديداً على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبب مواقفه العظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم، واشتدَّ الأذى على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول السهيلي في الروض الأنف: فَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا.

يقول سيدنا عروة بن الزبير رضي الله عنه: لَمّا نَثَرَ ذَلِكَ السّفِيهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ التّرَابَ، دَخَلَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَهُ وَالتّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي، وَرَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا: (لَا تَبْكِي يَا بُنَيّةُ فَإِنّ الله مَانِعُ أَبَاك)، قَالَ: وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: (مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ).

كانت وفاة عمه مصيبة، ووفاة السيدة خديجة رضي الله عنها بعده مصيبة أكبر، وأصبحت الدار خالية، والجو مكفهرّاً، وغدت مكة موحشة، فكان ذلك العام عام الحزن، ضاع السَّنَدان، وفُقد النصيران، ولكن كان الله معه يؤيّده وينصره، والدنيا تعلمه كيف كان صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحمُّلُه.

ثالثاً: وفي هذا العام لما هلك عمه أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنال في حياة عمه أبي طالب، فخرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، والمَنَعَة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.

وموقف أهل الطائف معروف، حيث قال له أحدهم: هو يَمْرُط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك. وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلِّمك.

ثم أغروا سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به.

ما موقفه من هذه الأحداث؟

هذه الأحداث التي حصلت معه صلى الله عليه وسلم كان موقفه منها واحداً، ألا وهو الصبر، بل المصابرة، لأن الله تعالى أنزل عليه قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.

لقد مني النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا العام، توفي عمه الذي كان يحميه من أذى المشركين، وما هي إلا أشهر حتى توفيت السيدة خديجة الكبرى رضي الله عنها التي كانت وزير صدق له صلى الله عليه وسلم، والمحنة الثالثة في الطائف.

تلك هي سلسلة المصائب التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحبُّ خلقِ الله إلى الله تعالى، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضجر، ولم يثُر، لم يتأفف، لم يتمرَّد، لأنه عبد مملوك لله تعالى، ولأن وظيفته ممارسة العبودية لله سبحانه وتعالى بكل طواعية وبكلِّ حب، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور الذي يجرح الفؤاد: (إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي) رواه الطبراني.

ما هي النتيجة بعد التحقق بالعبودية والصبر؟

النتيجة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فما أن انتهى العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم، وأطلَّ العام الحادي عشر، حتى أكرمه الله تعالى بنعمة لم يُكْرِم بها أحداً من رسله وأنبيائه من قبل، لقد أكرمه الله تعالى بالإسراء والمعراج بروحه وجسده حتى وصل إلى سدرة المنتهى.

الخلاصة مما تقدم:

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة، والمطلوب أن نعلم كيف نسير إلى الله تعالى، وعلى أيّ طريق نخطو الخطى، وأن نعلم بأن هذه السُّنَّة وهذا القانون {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} محقَّق، فوعد الله لا يُخلف، وعرفنا مصداق هذا في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

نعم صدق الله القائل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} لقد كان بعد المحنة منحة، وأيُّ منحة أعظم من هذه المنحة؟!

فهذا هو القانون الإلهي، وهذه هي سنة الله التي لا نجد تبديلاً لها ولا تحويلاً، فهو تبارك وتعالى يجعل مع العسر يسراً، وبشرط أن يتحقق العبد بعبوديته لله تعالى، والتي من جملتها الصبر في الشدائد.

اللهم اجعلنا من الشاكرين عند الرخاء، ومن الصابرين عند البلاء، ومن الراضين بمرِّ القضاء، ولكن يا ربَّنا عافيتك أوسع لنا، فعاملنا بفضلك يا أرحم الراحمين. آمين آمين آمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**    **     **

 

 2008-07-02
 4524
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

09-04-2024 74 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 74
13-03-2024 244 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 244
09-02-2024 498 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 498
13-01-2024 296 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 296
14-12-2023 433 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 433
16-11-2023 535 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 535

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412547495
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :