11ـ كلمة شهر محرم لعام 1429هـ

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فيا من هو على يقين من قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا}. وهو على يقين من قول الله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}. وهو على يقين من قول الله عز وجل: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. وهو على يقين من قول الله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. وهو على يقين من قول الله عز وجل: {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ}.

فهل تعلم أن الله يكتب ما قدمت من عمل ويكتب أثرك من بعدك؟

فهل بوسعك أن تقف مع نفسك لحظات تحاسب فيها نفسك، قبل أن يحاسبك الله تعالى في دار الجزاء؟ لأن محاسبتك لنفسك في دار الدنيا تنتفع منها حيث تمحو جميع المخالفات بصدق التوبة، أما محاسبتك يوم القيامة فهي لإقامة الحجة عليك، ثم من بعدها الجزاء على العمل، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

أخي الحبيب:

لقد ودعت عاماً هجرياً فهو شاهد لك أو عليك، لقد سُجِّلت فيه آثار أعمالك، وحُفظت عند الله عز وجل، فإن كنت عملت صالحاً وأحسنت كان عامك شاهداً لك بالخير والبركة، وتدخل عامك الجديد بنفس جديد، وهمة عالية، لأنك رأيت خيراً وحياة طيبة، وهذا مصداق قول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. فزد من العمل الصالح والعلم النافع، وتذكر حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناءك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك) رواه البيهقي.

وأما إذا كنت عملت عملاً غير صالح لا قدر الله وقصرت وأسأت، فإن عامك لن يعود، فالحق العام المنصرم بتوبة صادقة، فإذا تبت إلى الله تعالى فإن الله ينسي الحفظة ما كتبوا عليك، وينسي الأرض التي شهدت عليك، ويمحو الله تلك السيئات ويبدلها حسنات {إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا}.

أخي المسلم: من بديع حكمة الله تعالى أن ختم العام الهجري بأعظم عبادة ألا وهي الحج، وافتتح العام الثاني بعبادة ثانية ألا وهي الصوم، وذلك لما رواه أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ).

ومن ختم عامه بطاعة، وافتتح عاماً جديداً بطاعة فإنه يرجى أن يوفَّق للطاعة عامه كله.

فانظر أخي إلى أثرك الذي يسجل عليك من خلال قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}.

وتساءل فيما بينك وبين نفسك الأسئلة التالية، وقل لها:

أولاً: يا نفس هل تعلمين أنه مضى من عمري أكثر من ثلاثمائة وستين يوماً؟ يعني أكثر من ثمانية آلاف ساعة وستمائة وأربعين دقيقة، ودقَّ فيها قلبي أكثر من أربعين مليون دقة، وفي كل دقة يقول قلبي: إن العمر دقائق وثوان، هل تعلمين أني مسؤول عن ذلك يوم القيامة؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه) رواه البيهقي.

فكم من ساعة قضيتُها في طاعة؟ وكم من ساعة قضيتُها في معصية؟ وكم من ساعة كانت في غفلة؟ وكم من ساعة كانت لله؟ وكم من ساعة ذهبت هباءً منثوراً؟ أما علمت يا نفسي بأن أنفاسي جوهرة لا عوض عنها؟ تعالي يا نفس لتتوبي إلى الله تعالى.

ثانياً: يا نفس كم صلاة مع الجماعة فاتتني؟ كم صلاة الفجر صليتها في جماعة؟ كم صلاة صليتها في خشوع؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت).

ثالثاً: يا نفس كم ساعة قضيتها في لعب الورق و الطاولة والشطرنج؟ ما هي الفائدة التي جنيتها من ذلك؟.

رابعاً: يا نفس كم من قرين سوء تعرفت عليه؟ وكم من عبد صالح تعرفت عليه؟ والمرء يحشر مع من أحب.

خامساً: يا نفس كم من ساعة قضيتها على شاشة التلفاز، والمواقع التي لا ترضي الله عز وجل وكلُّها سُجِّلت علي؟ وكم من ساعة قرأت فيها القرآن العظيم؟ يا نفس كم حسنة ضيَّعت بعد تلاوة القرآن العظيم؟ أوما علمت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) رواه الترمذي.

سادساً: يا نفس كم من مجلس غيبة حضرت؟ وكم مجلس معصية حضرت، وما قمت عنه إلا كما يقام عن جيفة حمار، كما جاء في الحديث الشريف: (مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ الله فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً) رواه أبو داود.

وكم من مجلس علم فوَّت، تلك المجالس التي هي روضة من رياض الجنة: (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ) رواه الترمذي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ المَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه أبو داود.

سابعاً: يا نفس كم رزقني الله في هذا العام؟ فكم صرفت في طاعة الله؟ وكم صرفت في معصية الله؟ وكم صرفت في أمر مباح؟ وكم صرفت لله عز وجل؟ أما علمت يا نفس ما رواه مُطَرِّف عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} قَالَ: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبقَيْت) رواه مسلم.

يا نفس كم أفنيتِ؟ وكم أبليتِ؟ وكم أبقيتِ؟ يا نفس هذا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم يذبح شاة ويتصدق بها ويسأل السيدة عائشة مربياً لها: (مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا) رواه الترمذي.

يا نفس تعالي لنتوب إلى الله تعالى، لنجدِّد العهد مع الله، لأن مولانا يقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}.

يا نفس اصطلحي مع الله حتى لا نندم، اصطلحي مع الله حتى نقول: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، حتى لا نقول: رب ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، ووفق أصولنا وفروعنا وأزواجنا وأحبابنا والمسلمين أجمعين آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نرجوكم دعوة صالحة.

** ** **