222ــ خطبة الجمعة: الكلُّ خطَّاءٌ والسعيد هو التوَّاب

222ــ خطبة الجمعة: الكلُّ خطَّاءٌ والسعيد هو التوَّاب

 

مقدِّمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

العبدُ الفَاسِدُ المُفْسِدُ في هذا المجتمع أمامه طريقان لا ثالث لهما:

الأول: هو التوبة لله عز وجل، ومن أكرمه الله تعالى بذلك فهو السعيد.

والثاني: هو الإصرار على الفساد والإفساد، وهذا عنوان الشقاء له في الدنيا والآخرة، وسوف يندم ولا ينفعه الندم، قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.

لعل الفَاسِد المُفْسِد، إنْ كان من الحكومة أو من الشعب، يتدبَّر هذه الآية جيداً: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. حسرة ما بعدها حسرة، ولكن لا تنفع لأنَّ الله تبارك وتعالى أعقبها بقوله جلَّت قدرته: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد}. هذا في حق الفَاسِد المُفْسِد.

أما الصالح المصلح، الذي كان مقهوراً مظلوماً، وكان منضبطاً بضوابط الشريعة، فليسمع ماذا قال مولانا عز وجل بعد بيان مصير الفَاسِد المُفْسِد، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

أيها الإخوة الكرام: ليسمع كلا الطرفين من أهل الصلاح والفساد إلى بيان الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِين * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّون * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِين * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُون * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُون}.

فيا أهل الصلاح والإصلاح من أهل التقوى، العاقبة لكم وربِّ الكعبة، ويا أهل الفساد والإفساد، العاقبة وخيمةٌ بحقِّكم إذا دمتم على الفساد والإفساد ولم تتوبوا إلى الله عز وجل.

الكلُّ خطَّاءٌ:

معشر المسلمين: كلُّ إنسانٍ خطَّاء، حاشا الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، لأنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

فالفساد كما هو موجود في بعض الشعب هو في بعض المسؤولين من الحكومة، وعارٌ على الشعب أن يُبرِّئ نفسه ويتَّهم الحكومة والمسؤولين، وعارٌ على الحكومة والمسؤولين أن يبرِّؤوا أنفسهم ويتَّهموا الشعب.

يجب على الجميع أن يحاسبوا أنفسهم، فمن كان فاسداً مفسداً خطَّاءً فعليه أن يُسرع إلى الخير قبل أن يفوته بموته، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (وخير الخطَّائين التوابون). فكن أيها الخطَّاء من خير الخطَّائين، وذلك بتوبتك الصادقة لله عز وجل.

استحضر أيها الفَاسِدُ المُفْسِدُ هذه الحقائق:

أيها الإخوة الكرام: أتوجَّه إلى كلِّ فاسدٍ ومُفْسِد، بل لكلِّ واحد منَّا لأقول له: استحضر هذه الحقائق دائماً وأبداً، لعلها تكون سبباً في توبتك إلى الله تعالى.

الحقيقة الأولى:

اعلم أيها الفَاسِد المُفْسِد إنْ كنت من الحكومة أو من الشعب، الحقيقة الأولى، ألا وهي أننا جميعاً في قبضة الله عز وجل حُكَّاماً ومحكومين، أقوياءَ وضعفاءَ، طائعينَ وعاصينَ، فَمِنَ الله تعالى بدايتنا، وإليه جلَّت قدرته نهايتنا، ولا يملك أحد مهما كان وضعه مع قدرة الله تعالى شيئاً.

اعلم أيها الفَاسِد المُفْسِد أنَّك في قبضة الله عز وجل، ولن تفلت من قبضته، وأنك راجع إليه إن شئت وإن أبيت، ولن تكون كالعبد الصالح يوم القيامة، واسمع إلى هذه الآيات الكريمة:

أولاً: يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُون}. والله لن تكون حياتك كحياة الصالح المُصلح، حياتك شقاءٌ وضنك، وحياته طيبة، ومماتك إن بقيت مصرّاً على فسادك ليس كمماته، فشتَّان بين من يقول: {رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}. وبين من يقول: واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.

ثانياً: يقول الله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُون * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}. فكِّر قليلاً أيها العبد الفَاسِدُ المُفْسِدُ المغرورُ، فكِّر في خاتمة المؤمن الذي يعمل الصالحات وما أعدَّ الله تعالى له، وفي خاتمة العبد الفَاسِد المُفْسِد الذي فسق عن أمر ربه، وما أعدَّ الله تعالى له.

ثالثاً: يقول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون}. ويقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار}. من صفات الله عز وجل العدل، وحاشا لربنا أن يجعل المسلمين كالمجرمين في دار البقاء، وإن إصرار العبد على الفساد والإفساد هو إجرام في حقِّ نفسه، لأنَّه سيخسر الدنيا والآخرة وربِّ الكعبة.

الحقيقة الثانية:

اعلم أيها الفَاسِد المُفْسِد إنْ كنت من الحكومة أو من الشعب الحقيقة الثانية ألا وهي قول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور}. تذكَّر أن الموت ينتظرك طال الزمن أم قَصُرْ، تذكَّر قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (عِشْ ما شئت فإنك ميِّتْ) رواه الطبراني والحاكم. تذكر بأنَّ أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يتجاوز ذلك، كما في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ).

تذكَّر أيها الفَاسِد المُفْسِد أنك ستنتقل من قصرٍ إلى قبرٍ، وستترك الأهل والمال والولد والزوجة، وستترك الجاه والمنصب والإدارة، وستترك منزلتك الدنيوية مهما كانت، ستترك جميع النعم التي أسبغها الله عليك، والتي كنت مبتلىً فيها وأنت لا تشعر، {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}.

تفكَّر بأنَّ جميع هذه النعم سوف تتركها بموتك، سوف تترك الجاه والصحة والعافية والرياسة والريادة والسيادة بموتك، قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُون * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين}.

وقد تتحوَّل تلك النعم عنك وأنت على قيد الحياة، قال تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون}.

تذكر أيها الفَاسِد المُفْسِد مهما كنت، بأنك ستُحْمَلُ في النعش إلى قبرك، وسيكشف الغطاء عن النعش وتُحْمَلُ من النعش إلى قبرك، أين قوتك؟ أين مالك؟ أين جاهك؟ أين إرادتك؟ أين رتبتك؟

ستوضع في القبر، وتوضع الحجارة فوقك، ثمَّ يُهال عليك التراب، وتبقى وحيداً في قبرك، ذهب الكل وبقيتَ أنت مع عملك، وسيأتيك ملكان من قِبَلِ الرحمن، فهنيئاً للعبد إذا تطابقت أقواله مع أفعاله، حيث يكون قبره روضة من رياض الجنة، أما إذا تباينت الأفعال عن الأقوال فإنَّ القبر حفرةٌ من حفر النار والعياذ بالله تعالى.

الحقيقة الثالثة:

اعلم أيها العبد الفَاسِد المُفْسِد مهما كنت، ومهما كان وضعك، بأنَّ السفر سفران، سفرٌ من الدنيا وسفرٌ في الدنيا، أما سفرك في الدنيا فكثيرٌ وكثيرٌ جداً، كم جُبْتَ الأرض شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، جواً وبراً وبحراً؟ كم تزوَّدت لهذا السفر؟ وهذا السفر كان باختيارك.

أما سفرك من الدنيا فهو مرة واحدة، وليس باختيارك، بل رغماً عن أنفك، والله لو اجتمعت أهل الأرض والسماء على أن يدفعوا عنك هذا السفر ويمنعوك منه فإنهم عاجزون عن ذلك، قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاق * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاق * فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.

نعم لقد أقسموا جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، ونحن نقسم جهد أيماننا بأنَّ الله سيبعث من يموت.

نعم لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من الدنيا، وخرج أبو جهل، خرج سيدنا موسى عليه السلام وخرج فرعون، خرج سيدنا إبراهيم عليه السلام وخرج نمروذ، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون}.

الحقيقة الرابعة:

يا عباد الله: إن أكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة، ولا حقيقتها، فضلاً عن القيام بها علماً وعملاً وحالاً وسلوكاً، ربنا عز وجل يقول: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}. فهل عرفنا معنى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}. إنَّ المحبة من الله تعالى تكون للخواصِّ من خلقه، هؤلاء الخواص عرفوا معنى محبة الله لعبده، من خلال الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ).

حقيقةً ما عرف حقيقة التوبة وقدرها إلا الخُلَّص من عباد الله تعالى، فهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يكثر من الاستغفار والتوبة، كما جاء في صحيح البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (وَالله إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً). نعم كان يُكثر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من الاستغفار والتوبة لأنه عرف حقيقة قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}.

وأخرج أبو داود عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

اسمع أيها الفَاسِد المُفْسِد ـ مهما كنت ـ نداءَ الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}. باب التوبة مفتوح أمامك، لا يغلق إلا إذا وقعت روحك في الغرغرة.

الحقيقة الخامسة:

معشر المسلمين، التوبة لله تعالى مطلوبة من العبد، ومن سعادة العبد أن يوفَّق للتوبة، والتوبة لها أنواع:

أولاً: توبة الإنابة: وهي أن تخاف الله من أجل قدرته عليك، تذكَّر أيها العبد الفَاسِد المُفْسِد أنه مقدور عليك مهما كنت قادراً، ومهما أوتيت من دهاءٍ وذكاءٍ ومكرٍ وحيلةٍ، وأيمانٍ كاذبة مغلَّظة، تذكَّر أنَّك في قبضة الله تعالى، فإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكِّرْ قدرة الله عليك.

ثانياً: توبة استجابة: وهي أن تستحي من الله تعالى لقربه منك، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}. أما تستحي أيها الفَاسِد المُفْسِد من ربك {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك}.

تُبْ إلى الله تعالى من الفساد، لأنَّ فسادك قد يكون سبباً لدمار الأمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. فاستجب لنداء الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}.

ثالثاً: توبة صحيحة: وهي أن تتوب إلى الله تعالى بصدق في الحال.

رابعاً: توبة نصوح: وهي عزمٌ على عدم العود إلى الذنب ثانية.

خامساً: توبة فاسدة: وهذه توبة بعض الناس، وهي توبة اللسان، ولكن صاحبها مُصِرٌّ على ذنبه، والتائب من ذنبه بغير إقلاع كالمستهزئ بربه، كما في الحديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

أيها الفَاسِد المُفْسِد: إن كنت تعتقد بأنَّ الله لا يراك فهذا خلل في إيمانك، وإن كنت تعتقد أنه يراك فلا تجعله أهون الناظرين إليك.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

يا عباد الله: أتوجَّه إلى كلِّ فاسدٍ مُفسدٍ، إن كان من الحكومة أو الشعب، بنصيحة فأقول له:

كن حريصاً على نفسك حتى لا تكون من النادمين المفلسين يوم القيامة، اترك الفساد، وأعد الحقوق لأصحابها، واستحللهم قبل موتك، واسمع الحديث الذي يرويه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ).

هل سمعت هذا الحديث الشريف أيها المرتشي، أيها المدير، أيها المسؤول، أيها الضابط؟ هل سمعت هذا الحديث يا من أفسدت بين الحكومة والشعب، وأدخلت أناساً في السجون ظلماً وعدواناً؟ أعد الحقوق لأصحابها ، واستحلل من أربابها قبل أن تندم ولا ينفعك الندم.

وأخيراً يا عباد الله، ليمسك كلُّ واحد منا يده ولسانه في أيام الفتن، لأنها فتنٌ عمياء، ومن ظنَّ أنَّه ليس هناك تآمر على المسلمين من الخارج فقد أخطأ الظن، والله إنها حربٌ صليبيةٌ على الأمة، تذكَّروا قول الله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير}.

لذلك أتوجَّه إلى الحكومة والشعب، وأقول: يا عباد الله، يا عباد الله، يا عباد الله، اقطعوا الطريق على المتآمرين، ولتكن صدوركم واسعة، وليؤدِّ كلُّ واحدٍ حقَّ الآخر، فإني لكم ناصحٌ أمينٌ إن شاء الله تعالى.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

 

 2011-05-27
 7757
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-03-2024 583 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 583
14-03-2024 928 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 928
08-03-2024 854 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 854
09-02-2024 2550 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2550
02-02-2024 2241 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2241
25-01-2024 1483 مشاهدة
900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد

 25-01-2024
 
 1483

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411932066
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :