402ـ خطبة الجمعة: الله تعالى يدعونا

402ـ خطبة الجمعة: الله تعالى يدعونا

 

 402ـ خطبة الجمعة: الله تعالى يدعونا

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، لقد دَخَلنَا في أَيَّامٍ ولَيَالٍ أَقسَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بِهَا، فَقَالَ: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾. دَخَلنَا في أَيَّامٍ ولَيَالٍ عَظَّمَ اللهُ تعالى شَأنَهَا، وزَادَهَا شَرَفَاً وقَدْرَاً، إذْ جَمَعَ فِيهَا أَعمَالاً صَالِحَةً من حَجٍّ وصَلاةٍ وصَدَقَةٍ وذِكْرٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ، إذا لم نَلحَقْ بِرِكَابِ الحُجَّاجِ والمُعتَمِرِينَ فَعَزَاؤُنَا في قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ».

قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟

قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

فَأَينَ المُسَارِعُونَ للعَمَلِ الصَّالِحِ في هذهِ الأَيَّامِ؟ وأَينَ المُتَسَابِقُونَ فِيهَا؟ هذهِ الأَيَّامُ هيَ أَفضَلُ أَيَّامِ الدُّنيَا، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه البَزَّارُ بِإِسنَادٍ حَسَنٍ عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ رَسُولَ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفضَلُ أَيَّامِ الدُّنيَا العَشْرُ ـ يَعنِي: عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ ـ».

قِيلَ: ولا مِثلَهُنَّ في سَبِيلِ اللهِ؟

قال: «ولا مِثلَهُنَّ في سَبِيلِ اللهِ، إلا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ بالتُّرَابِ».

سَلامَةُ الصَّدْرِ من أَهَمِّ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ بأنَّ صِيَامَ هذهِ الأَيَّامِ، وقِيَامَ لَيَالِيهَا، والصَّدَقَةَ، وتِلاوَةَ القُرآنِ العَظِيمِ، وكَثْرَةَ ذِكْرِ اللهِ تعالى، وكَثْرَةَ الصَّلاةِ والسَّلامِ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، من الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ والعِبَادَاتِ التي يُحِبُّهَا اللهُ تعالى، ولكن إذا دَقَّقْنَا النَّظَرَ في هذهِ العِبَادَاتِ فإِنَّا نَجِدُ جُلَّ هذهِ العِبَادَاتِ عِبَادَاتٍ ذَاتِيَّةً مُلازِمَةً للإنسَانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، لِنَعلَمْ جَمِيعَاً أنَّ من أَهَمِّ العِبَادَاتِ والأَعمَالِ الصَّالِحَةِ التي خَيرُهَا يَعُودُ على المُجتَمَعِ، وخَاصَّةً في هذهِ الأَزمَةِ هيَ عِبَادَةُ سَلامَةِ الصَّدْرِ، ولقد دَعَانَا القُرآنُ العَظِيمُ إلى ذلكَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

ودَعَانَا إلى ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِيَ فِي الْجَنَّةِ».

اللهُ تعالى يَدعُونَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحنُ نَعِيشُ في هذهِ الأَيَّامِ العَصِيبَةِ التي تَدَاعَت فِيهَا عَلَينَا الأُمَمُ، نَعِيشُ هذهِ الأَيَّامَ التي هيَ من الأَشهُرِ الحُرُمِ، والتي قال تعالى فِيهَا: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾. فهل بِوُسعِنَا أن نُصغِيَ إلى دَعْوَةِ اللهِ تعالى لَنَا في كِتَابِهِ العَظِيمِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، اللهُ تعالى يَدعُونَا للبُرهَانِ على سَلامَةِ الصَّدْرِ والقَلبِ، لأَنَّنَا كُلَّنَا يُزَكِّي نَفسَهُ، ويُشهِدُ اللهَ تعالى على سَلامَةِ قَلبِهِ، فَيَا من يَدَّعِي ذلكَ، اسمَعْ إلى دَعْوَةِ اللهِ تعالى لَكَ:

قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.

وقال تعالى: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾.

وقال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾.

وقال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيم﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَينَ من يَقِفُ مَعَ هذهِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ وِقفَةَ العَبدِ المُتَدَبِّرِ لآيَاتِ اللهِ تعالى؟ لقد دَعَانَا اللهُ تعالى بِتِلكَ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ من أَجلِ سَلامَةِ العَلاقَةِ بَينَنَا، ومن أَجل سَلامَةِ بِلادِنَا، ومن أَجلِ سَلامَةِ دِيَارِنَا، ومن أَجلِ سَلامَةِ أَعرَاضِنَا، ومن أَجلِ سَلامَةِ أَموَالِنَا، ومن أَجلِ قَطْعِ الطَّرِيقِ على الأُمَمِ الحَاقِدَةِ الحَاسِدَةِ التي تَتَرَبَّصُ بِنَا الدَّوَائِرَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، اللهُ تعالى يَدعُونَا بِقَولِهِ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. ومن القُرآنِ العَظِيمِ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. فَمَا أَعظَمَ هذا الأَجْرَ، فهوَ من مَالِكِ المُلْكِ، فلا تَحرِمُوا أَنفُسَكُم هذا الأَجْرَ العَظِيمَ، وحَافِظُوا على دِيَارِكُم وأَموَالِكُم ودِمَائِكُم وأَعرَاضِكُم من خِلالِ العَفْوِ والصُّلْحِ فِيمَا بَينَكُم حَتَّى لا تَندَمُوا، وإلا فَسَتَندَمُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لما يُرضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ذو الحجة/1435هـ، الموافق: 26/أيلول / 2014م

 

 2014-09-26
 15634
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 223 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 223
12-04-2024 929 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 929
09-04-2024 605 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 605
04-04-2024 711 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 711
28-03-2024 631 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 631
21-03-2024 1126 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1126

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413869523
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :