أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

2065 - ما مدى صحة المناظرة التي جرت بين أبي جعفر المنصور والإمام مالك

20-05-2009 17883 مشاهدة
 السؤال :
لقد سمعنا من بعض طلاب العلم بأن المناظرة التي جرت بين أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور والإمام مالك رحمه الله لا صحة لها، فما هو سند هذه المناظرة؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 2065
 2009-05-20

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَإِنَّ المُنَاظَرَةَ التي جَرَتْ بَيْنَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرَ المَنْصُورِ وَالإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في مَسْجِدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هِيَ صَحِيحَةُ الإِسْنَادِ؛ فَقَدْ جَاءَ في كِتَابِ الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَصْلٌ في تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ ـ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ـ قَالَ: نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مَالِكَاً في مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ في هَذَا المَسْجِدِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى أَدَّبَ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. وَمَدَحَ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾. وَذَمَّ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾. وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيْتَاً كَحُرْمَتِهِ حَيَّاً.

فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرَ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللِه، أَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى اللهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ؟ بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعُهُ اللهُ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً﴾.

وَقَدْ جَاءَ في كِتَابِ أَنْوَارِ البُرُوقِ للقُرَافِيِّ: مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنهُ، أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو جَعْفَرَ الْـمَنْصُورُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ حِينَ الدُّعَاءِ أَو اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ لَهُ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ قَبْلَكَ، بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعُهُ اللهُ فِيكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً﴾.

قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ في الجَوْهَرِ المُنَظَّمِ: رِوَايَةُ ذَلِكَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ جَاءَتْ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ الذي لَا مَطْعَنَ فِيهِ.

وَقَالَ العَلَّامَةُ الزَّرْقَانِيُّ في شَرْحِ المَوَاهِبِ: وَرَوَاهَا ابْنُ فَهْدٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَاهَا القَاضِي عِيَاضٌ في الشِّفَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَيْسَ في إِسْنَادِهَا وَضَّاعٌ وَلَا كَذَّابٌ، على أَنَّهَا قَدْ عُضِدَتْ بِجَرَيَانِ العَمَلِ وَبِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ في جَوَازِ التَّوَسُّلِ التي يَعْضِدُ بَعْضُهَا بَعْضَاً، وَبِظَاهِرِ اسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِالعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَرَدَّ العَلَّامَةُ الزَّرْقَانِيُّ في شَرْحِهِ لِلْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ للقَسْطَلَانِيِّ على ابْنِ تَيْمِيَةَ بِأَنَّهَا مَرْوِيَّةٌ عَنْ ثِقَاتٍ لَيْسَ فِيهِمْ وَضَّاعٌ وَلَا كَذَّابٌ، ثمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ مِنْ كَرَاهِيَةِ مَالِكٍ لاسْتِقْبَالِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الدُّعَاءِ بِأَنَّ كُتُبَ المَالِكِيَّةِ طَافِحَةٌ بِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ القَبْرِ وَاسْتِقْبَالِهِ.

وَيَقُولُ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالجُمْهُورُ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

قَالَ ابْنُ الهَمَّامِ: وَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ مَرْدُودٌ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ القِبْلَةِ، وَتَجْعَلَ ظَهْرَكَ إلى القِبْلَةِ وَتَسْتَقْبِلَ القَبْرَ بِوَجْهِكَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ، وَمَنْ يَأْتِي الحَيَّ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ.

وَصَرَّحَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِ الأَذْكَارِ بِقَوْلِهِ: فَإَذَا صَلَّى تَحِيَّةَ المَسْجِدِ أَتَى القَبْرَ الكَرِيمَ فَاستَقْبَلَهُ وَاسْتَدْبَرَ القِبْلَةَ على نَحْوِ أَرْبَعِ أَذْرُعٍ مِنْ جِدَارِ القَبْرِ، وَسَلَّمَ مُقْتَصِدَاً لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ.

وَقَالَ العَلَّامَةُ الزَّرْقَانِيُّ: وَقَوْلُ ابْنُ تَيْمِيَةَ: (وَمَالِكٌ مِنْ أَعْظَمِ الأَئِمَّةِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ) خَطَأٌ قَبِيحٌ ـ يَعنِي: نِسْبَةُ الكَلَامِ للإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بِكَرَاهِيَةَِ اسْتِدْبَارِ القِبْلَةِ أَثْنَاءَ الدُّعَاءِ ـ فَإِنَّ كُتُبَ المَالِكِيَّةِ طَافِحَةٌ بِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ القَبْرِ مُسْتَقْبِلَاً لَهُ مُسْتَدْبِرَاً لِلْقِبْلَةِ، وَمِمَّنْ نَصَّ على ذَلِكَ أَبُو الحَسَنِ القَابِسِيِّ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالعَلَّامَةُ خَلِيلٌ في مَنْسَكِهِ، وَنَقَلَهُ في الشِّفَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِذَا سَلَّمَ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلى القَبْرِ لَا إِلَى القِبْلَةِ، وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ، وَلَا يَمَسُّ القَبْرَ بِيَدِهِ. اهـ.

وبناء على ذلك:

فَمَا كَذَّبَ أَحَدٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إلا ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَذَلِكَ مُمَاشَاةً لِاعْتِقَادِهِ في تَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ، وَهَذَا التَّكْذِيبُ مَرْدُودٌ على ابْنِ تَيْمِيَةَ كَمَا ذَكَرَ الأَئِمَّةُ الأَعْلَامُ بِثُبُوتِهَا، وَبِثُبُوتِ صِحَّةِ التَّوَسُّلِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في عَالَمِ الدُّنْيَا وَالبَرْزَخِ وَالآخِرَةِ، وَنَسْأَلُ اللَه تعالى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
17883 مشاهدة