14ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: الحزن على أبي طالب

14ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: الحزن على أبي طالب

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

14ـ الحزن على أبي طالب

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَكرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِنِعمَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، وطَلَبَ مِنَّا أن نَتَدَبَّرَ مَا فِيهِ، وأن نَعمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، وقد جَاءَتْ فِيهِ مَوَاعِظُ من رَبِّنَا لِجَلاءِ صَدَأِ قُلُوبِنَا، وحَمْلِ نُفُوسَنَا على السَّيْرِ في الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، من هذهِ التَّوجِيهَاتِ، تَوجِيهُ النَّاسِ للقِيَامِ بِوَاجِبِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد فَرَّطْنَا في هذا الوَاجِبِ الشَّرعِيِّ، وَاجِبِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، ورَكَنَتْ نُفُوسُنَا إلى الدُّنيَا، واشْتَغَلنَا بالمَلَذَّاتِ واتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، وسَوفَ نُسأَلُ يَومَ القِيَامَةِ عن ذلكَ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾.

الأُمَّةُ مَأْمُورَةٌ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأُمَّةُ مَأْمُورَةٌ بِتَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهَا عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. الأُمَّةُ مَأْمُورَةٌ بذلكَ ولَيسَ عَلَيهَا خَلْقُ الهِدَايَةِ في قُلُوبِ العِبَادِ، لأنَّ هذا لَيسَ من شَأْنِهَا، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمَاً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابَاً شَدِيدَاً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ تعالى تَحتَاجُ إلى رِجَالٍ يَتَسَلَّلُونَ إلى قُلُوبِ النَّاسِ، ويَأْسِرُونَهُم بِحُسْنِ سَمْتِهِم وخُلُقِهِم، وَيُعَرِّفُونَهُم باللهِ تعالى، ويُذَكِّرُونَهُم بِأَيَّامِ اللهِ، ويُعِينُوهُم على أَنفُسِهِم وعلى الشَّيطَانِ.

إنَّ تَسْهِيلَ طَرِيقِ الخَيرِ أَمَامَ النَّاسِ، وإِزَالَةَ العَوَائِقِ المَوْهُومَةِ، وتَأْلِيفَ قُلُوبِهِم، وإِشْعَارَهُم بِمَحَبَّةِ الخَيرِ لَهُم، وأن يَكُونَ الدَّاعِي بَعِيدَاً عن المَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدَّاً، قال تعالى حِكَايَةً عن نَبِيٍّ من الأَنبِيَاءِ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾:

أيُّها الإخوة الكرام: دَرَجَ كَثِيرٌ من النَّاسِ على الاسْتِشْهَادِ بِقَولِ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. عِندَمَا يُشَاهِدُونَ نَاصِحَاً، فَيُسْرِعُونَ ويَقُولُونَ: دَعْهُ دَعْهُ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ.

هؤلاءِ مَا عَلِمُوا بِأَنَّ هذهِ الآيَةَ لَيسَ المَقْصُودُ مِنهَا إيقَافَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، بَل المَقْصُودُ مِنهَا أنَّ اللهَ تعالى يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ أَحَدَاً لا يَمْلِكُ أن يُدْخِلَ الإِسلامَ والإِيمَانَ في قَلبِ شَخْصٍ أَبَدَاً، ولكنَّ اللهَ هوَ الذي يَهْدِي مَن يَشَاءُ، فَيُدْخِلُهُ في الإِسلامِ بِعِنَايَتِهِ.

فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَكَ: يَا أَيُّهَا الدَّاعِيَةُ، لا تَغْتَرَّ بِعَمَلِكَ وَلَو أَثْمَرَتْ بَعْضُ مَجْهُودَاتِكَ، ولا تَظُنَّ أَنَّكَ أَنتَ الذي تُدْخِلُ الهِدَايَةَ في القُلُوبِ، بل الذي يُدْخِلُ الهِدَايَةَ في القُلُوبِ إِنَّمَا هوَ اللهُ تعالى، أَنتَ عَلَيكَ البَلاغُ فَقَط بالأُسْلُوبِ الذي تَعَلَّمْتَهُ من القُرآنِ العَظِيمِ، ومن سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

«أيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»:

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَعَلَّمْ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيفَ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى، ولنَتَعَلَّمْ كَيفَ يَكُونُ حِرْصُ الإِنسَانِ على هِدَايَةِ الآخَرِينَ من خِلالِ آلِ البَيتِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ.

لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ على هِدَايَةِ الجَمِيعِ، وخَاصَّةً القَرِيبَ مِنهُم، لمَّا حَضَرَتِ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، طَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يَنْطِقَ عَمُّهُ بِكَلِمَةِ التَّوحِيدِ في آخِرِ حَيَاتِهِ، فَتَكُونَ حُجَّةً للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تعالى يَومَ القِيَامَةِ، لأنَّ عَمَّهُ كَانَ الرُّكْنَ الرَّكِينَ لَهُ في مَنْعَتِهِ ومَنْعَةِ المُسْلِمِينَ وحِمَايَتِهِم من أَذَى الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ، ولأنَّ عَمَّهُ كَانَ يَقُولُ:

واللهِ لَـنْ يَـصِلُـوا إلَيْكَ بجَمْعِهِمْ    ***   حَتَّى أوَسَّدَ فِي الـتُّرابِ دَفِيـنَا

فَاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ    ***   وابْشِرْ وَقَرَّ بِـذاكَ مِـنْكَ عُيُونَا

وَدَعَوْتَنِي وَعَرفْتُ أنَّـكَ نَاصِحي    ***   وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُـنْتَ ثَمَّ أمِينَا

وَعرَضْتَ دِينَاً قَـدْ عَلِـمْـتُ بأنَّهُ    ***   مِنْ خَـيْرِ أدْيَـانِ البَرِيَّـةِ دِيـنَـا

لَـوْلاَ المـلامَـةُ أو حَـذَارُ مَـسَـبَّـةٍ   ***   لَوَجَدْتَـنِـي سَـمْحَاً بِذَاكَ مُبِينَا

أيُّها الإخوة الكرام: لقد طَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أن يَنْطِقَ عَمُّهُ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، لأنَّهُ هوَ القَائِلُ لِقَوْمِهِ قَبلَ مَوْتِهِ: وَإِنِّي أُوصِيكُم بِمُحَمَّدٍ خَيْرَاً، فَإِنَّهُ الأَمِينُ في قُرَيشٍ، والصِّدِّيقُ في العَرَبِ، وهوَ الجَامِعُ لِكُلِّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ، وقد جَاءَ بِأَمْرٍ قَبِلَهُ الجَنَانُ، وَأَنْكَرَهُ اللِّسَانُ مَخَافَةَ الشَّنَآنِ.

روى الإمام البخاري عَن ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ.

فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ».

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ».

فَنَزَلَتْ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾. وَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.

حُزْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وفَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها:

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَعَلَّمْ خُلُقَ الرَّحمَةِ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن آلِ البَيتِ الكِرَامِ في حَقِّ الآخَرِينَ المُخَالِفِينَ.

أيُّها الإخوة الكرام: دَارَ حَدِيثٌ عن أَبِي طَالِبٍ ومَا قَدَّمَهُ للمُسْلِمِينَ، بَينَ المُؤمِنَةِ الأُولَى السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنها، وبَينَ بَنَاتِهَا الثَّلاثِ، زَينَبَ، وأُمِّ كُلثُومٍ، وفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ، وتَمَّ اسْتِعْرَاضُ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مَضَتْ من عُمُرِ النُّبُوَّةِ، ومَوقِفِ أَبِي طَالِبٍ مِنهَا.

أَخَذَتِ الأُمُّ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها تَدْعُو اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَهُ للإِسلامِ، وأن يَشْرَحَ صَدْرَهُ لذلكَ، وأن يَخْتِمَ عُمُرَهُ بالنُّطْقِ بالشَّهَادَتَينِ.

قَالَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها: لَيْتَهُ يَقُولُهَا حَتَّى تَعْصِمَهُ من النَّارِ يَومَ القِيَامَةِ.

وقَالَت أُمُّ كُلثُومَ رَضِيَ اللهُ عَنها: إِنَّهُ يَعْمَلُ لَهَا ومِن أَجْلِهَا، ولكن لا يَنْطِقُ بِهَا، هَل يُضْمِرُ الإِسلامَ ولا يُعْلِنُهُ، لِسَبَبٍ لا نَعْرِفُهُ؟

وقَالَت زَينَبُ رَضِيَ اللهُ عَنها: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ كَثيرَاً إلى الإِسلامِ ولَو كَانَ يُخْفِيهِ لأَخْبَرَهُ.

قَالَتْ أُمُّ المُؤمِنِينَ: لا نَمْلِكُ إلا أن نَدْعُوَ اللهَ لَهُ في هذهِ اللَّحَظَاتِ الحَاسِمَةِ أن يُوَفِّقَهُ اللهُ ويَنْطِقَ بالشَّهَادَتَينِ.

أيُّها الإخوة الكرام: هُنَا تَذْكُرُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها مَا قَالَهُ أَبُوهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهيَ مَا زَالَتْ صَغِيرَةً: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ـ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ـ اِشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِن اللهِ شَيْئَاً، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِن اللهِ شَيْئَاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِن اللهِ شَيْئَاً، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِن اللهِ شَيْئَاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِن اللهِ شَيْئَاً» رواه الإمام البخاري عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وكَأَنَّ الحَدِيثَ دَارَ بَينَهَا وبَينَ نَفْسِهَا، وقَالَتْ: أهكذا يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ، تُضَيِّعُ هذا المَاضِيَ النَّاصِعَ في مُسَانَدَةِ ابنِ أَخِيكَ، وفي مُسَانَدَةِ الدَّعْوَةِ الإِسلامِيَّةِ، في مُقَابِلِ الشَّهَادَتَينِ أن تَنْطِقَهُمَا من قَلبِكَ ولَيسَ من لِسَانِكَ؟ كَلِمَتَانِ: لا إِلَهَ إلا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، تَنْقُلانِ الإِنسَانَ من نَارٍ إلى جَنَّةٍ، ومن عَذَابٍ مُقِيمٍ إلى نَعِيمٍ مُسْتَدِيمٍ.

أَتُفَضِّلُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ أن تَبقَى في العَذَابِ إِرْضَاءً لِجَهْلِ وحُمْقِ الذينَ أَخَذَتْهُم حَمِيَّةُ الجَاهِلِيَّةِ فَأَعْمَتْهُم عن الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؟

أَتُفَضِّلُ هؤلاءِ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ على أن تُرْضِيَ اللهَ وتَسْلُكَ طَرِيقَ الجَنَّةِ بِكَلِمَتَينِ، لِيَكُونَ طَرِيقَكَ إلى الجَنَّةِ، وتُحِقَّ لَكَ شَفَاعَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أيُّها الإخوة الكرام: اِنْسَلَّتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها من بَينَ أَخَوَاتِهَا، واتَّجَهَتْ إلى بَيتِ أَبِي طَالِبٍ، لَعَلَّهَا تَسْمَعُ خَبَرَاً يُرِيحُ فُؤَادَهَا، ويُثْلِجُ قَلْبَهَا، ولكن انْتَابَتْهَا مَوجَةُ حُزْنٍ عَمِيقَةٌ لأنَّهَا أُخْبِرَتْ بِأَنَّهُ مَاتَ على دِينِ قَوْمِهِ.

لقد عَادَتْ من حَيثُ ذَهَبَتْ بَاكِيَةً، وارْتَمَتْ في أَحضَانِ أُمِّهَا المَرِيضَةِ، وقد أَحَسَّتْ أُمُّهَا بِهَا دُونَ أن تَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

وعَادَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى بَيتِهِ والحُزْنُ بَادٍ على وَجْهِهِ ولَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، لقد مَاتَ عَمُّهُ ولَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ، وأَنزَلَ اللهُ تعالى بعدَ ذلكَ قَولَهُ تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.

وأَنزَلَ قَولَهُ تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام مسلم عن الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟

قَالَ: «نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِن النَّارِ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ».

وفي رِوَايَةٍ لَهُ أَيضَاً عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابَاً أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ».

لِنَتَعَلَّمْ أيُّها الإخوة الكرام خُلُقَ الرَّحمَةِ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن آلِ بَيتِهِ الأَطْهَارِ، لِنَتَعَلَّمْ كَيفَ يَكُونُ حِرْصُ المُؤمِنِ على هِدَايَةِ الآخَرِينَ، من قَرِيبٍ وبَعِيدٍ.

روى البيهقي عَن المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَومٍ عَرَفتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي كُنتُ أَمشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ في بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ، إذْ لَقِينَا رَسُولَ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأَبِي جَهْلٍ: «يَا أَبَا الحَكَمِ، هَلُمَّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وإلى رَسُولِهِ، أَدْعُوكَ إلى اللهِ».

قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ، هَل أَنتَ مُنْتَهٍ عَن سَبِّ آلِهَتِنَا؟ هَل تُرِيدُ إلا أن نَشْهَدَ أن قد بَلَّغْتَ، فَنَحنُ نَشْهَدُ أن قد بَلَّغْتَ، فَوَاللهِ لَو أَنِّي أَعْلَمُ أنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ لاتَّبَعْتُكَ.

فَانصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَقبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: فَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، ولكن بَنِي قُصَي قَالُوا: فِينَا الحِجَابَةُ؟ يَعنِي حِجَابَةَ الكَعبَةِ، وهِيَ سِدَانَتُهَا وَتَوَلِّي حِفْظِهَا، وهُم الَّذِينَ بِأَيدِيهِم مَفَاتِيحُهَا.

فَقُلنَا: نَعَم.

فَقَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ؟ ـ هِيَ الدَّارُ التِي يَجتَمِعُونَ فِيهَا وَيَتَشَاوَرُونَ ـ

فَقُلنَا: نَعَم.

ثمَّ قَالُوا: فِينَا اللِّوَاءُ؟ ـ هو الرَّايَةُ يُمسِكُهَا صَاحِبُ الجَيشِ ـ

فَقُلنَا: نَعَم.

قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ؟ ـ يَعنِي: سِقَايَةَ الحُجَّاجِ مِنَ الزَّبِيبِ المَنبُوذِ فِي المَاءِ ـ

فَقُلنَا: نَعَم.

ثمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا، حَتَّى إذا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ؛ واللهِ لا أَفْعَلُ.

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعِيدُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالى لِلدَّعوَةِ إلى اللهِ تَعالَى بِالقَولِ الحَسَنِ، والأَخلَاقِ الحَمِيدَةِ، وصَفَاءِ السَّرِيرَة.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بالقَولِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا والآخِرَةِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الخميس: 6/جمادى الثانية /1435هـ، الموافق: 26/آذار / 2015م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم

13-03-2020 1392 مشاهدة
170ـ موقف الفاروق رضي الله عنه من شارب الخمر

نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد

 13-03-2020
 
 1392
13-02-2020 1948 مشاهدة
169ـ هكذا كان أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد

 13-02-2020
 
 1948
23-01-2020 2582 مشاهدة
168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد

 23-01-2020
 
 2582
16-01-2020 988 مشاهدة
167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد

 16-01-2020
 
 988
09-01-2020 1322 مشاهدة
166ـ حب سيدنا الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد

 09-01-2020
 
 1322
03-01-2020 1021 مشاهدة
165ـ صاحب رسول الله منذ أن بعث

زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد

 03-01-2020
 
 1021

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412521829
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :