21ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: مصيبة الهجرة

21ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: مصيبة الهجرة

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

21ـ مصيبة الهجرة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد حُرِمَ المُشْرِكُونَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ خَيْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُنْذُ أَنْ جَحَدُوا رِسَالَةَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وقَعَدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ بِهِ، ويَبْغُونَهَا عِوَجَاً.

ولَئِنْ نَجَحَتْ دِعَايَتُهُمُ الكَاذِبَةُ في مَنْعِ قَبَائِلَ كَثِيرَةٍ من دُخُولِ الإِسْلامِ، فَإِنَّ الحَقَّ لا بُدَّ أَنْ يَعْلُو، وأَنْ يَرْجِعَ إِلَيهِ المُضَلَّلُونَ والمَخْدُوعُونَ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، وقد قَيَّضَ اللهُ عزَّ وجلَّ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَن يَتَشَرَّفُ بالإِيمَانِ بِهِ، وبالاتِّبَاعِ لَهُ، وبِفِدَائِهِ بالرُّوحِ والمَالِ والأَهْلِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا اشْتَدَّ الأَذَى على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وعلى أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وكَانُوا صَابِرِينَ مُتَأَسِّينَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، مُحْتَسِبِينَ ثَابِتِينَ على الحَقِّ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً، وضَاقَتْ عَلَيهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وضَاقَتْ عَلَيهِم أَنْفُسُهُمْ، جَاءَ الفَرَجُ من اللهِ تعالى.

روى الإمام البخاري عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: «إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ». وَهِيَ أَرْضٌ فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ.

فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي».

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ، وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. يَقُالُ: السَّمُرُ: شَجَرَةُ أُمِّ غَيْلانَ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا لَهُ ظِلٌّ ثَخِينٌ.

مُصِيبَةُ الهِجْرَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الهِجْرَةُ من الوَطَنِ صَعْبَةُ وشَاقَّةٌ، فَهِيَ إِكْرَاهُ رَجُلٍ آمِنٍ في سِرْبِهِ، مُمْتَدِّ الجُذُورِ في مَكَانِهِ، على إِهْدَارِ مَصَالِحِهِ، والتَّضْحِيَةِ بِأَمْوَالِهِ، والنَّجَاةِ بِشَخْصِهِ فَحَسْبُ، وإِشْعَارِهِ بِأَنَّهُ مُسْتَبَاحٌ مَنْهُوبٌ، وقد يَهْلِكُ في أَوَّلِ الطَّرِيقِ أو في آخِرِهِ، وبِأَنَّهُ يَسِيرُ نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ مُبْهَمٍ، ولا يَدْرِي مَا يَتَمَخَّضُ عَنهُ من قَلاقِلَ وهُمُومٍ وأَحْزَانٍ، هذهِ الصِّعَابُ لا يُطِيقُهَا إلا المُؤْمِنُ.

أيُّها الإخوة الكرام: أَعْلَنَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن نَبَأِ الهِجْرَةِ المُبَارَكَةِ، وهَاجَتْ قُرَيشٌ ومَاجَتْ عَن بَكْرَةِ أَبِيهَا، وبَدَأَتْ طَلائِعُ المُهَاجِرِينَ إلى الحَبَشَةِ تَعُودُ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، لأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَذِنَ للمُسْلِمِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، فَهُنَاكَ سَيَجِدُونَ الحِمَايَةَ، ويَجِدُونَ الرَّاحَةَ من عَذَابِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَبْرَمَ بَيْعَتَينِ مَعَ أَهْلِ المَدِينَةِ.

البَيْعَةُ الأُولَى، رواها الإمام مسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ، أَنْ لَا نُشْرِكَ باللهِ شَيْئَاً، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضَاً ـ أي: لَا يَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ أو نَمِيمَةٍ ـ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدَّاً فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ.

وفي رِوَايَةِ الإمام البخاري قَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ باللهِ شَيْئَاً، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَلَا نَنْتَهِبَ، وَلَا نَعْصِيَ، بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئَاً كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ.

والبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ، رواها الإمام أحمد عَن جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟

قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ».

فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدَاً يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللهِ.

قَالُوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ، أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا؛ فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلاً رَجُلاً يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ.

عَوْدَةُ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ والسَّيِّدَةِ رُقَيَّةَ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ:

أيُّها الإخوة الكرام: في هذهِ الآوِنَةِ عَادَتِ المُهَاجِرَةُ الأُولَى السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ بِنْتُ الحَبِيبِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ وهيَ مُتَلَهِّفَةٌ إلى مَرَاتِعِ الصِّبَا، مُتَلَهِّفَةٌ إلى حِضْنِ أَبِيهَا الرَّحِيمِ، وإلى حَنَانِ أُمِّهَا خَدِيجَةَ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنها.

آبَتِ السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللهُ عَنها وهيَ مَشُوقَةٌ مُجْهَدَةٌ، فَأَسْرَعَتْ أُخْتَاهَا أُمُّ كُلْثُومٍ وفَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ لِلِقَائِهَا، وتَشَبَّثَا بِهَا مُعَانِقَتَيْنِ، وهُمَا تُغَالِبَانِ الدَّمْعَ، وتَتَكَلَّفَانِ التَّجَلُّدَ، وسَأَلَتِ السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ: أَينَ أَبِي؟ وأَينَ أُمِّي؟

قَالَتَا: أَبُوكِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِخَيْرٍ، وقَد خَرَجَ لِلِقَاءِ العَائِدِينَ مَعَكِ من مُهَاجِرَةِ الحَبَشَةِ، ثمَّ اخْتَلَجَتْ شِفَاهُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، وأُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ، وبَدَتْ في عُيُونِهِمَا دُمُوعُ حُزْنٍ مُتَجَدِّدٍ عَمِيقٍ.

وعَادَتِ السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ تَسْأَلُ، وقَد أَوْجَسَ قَلْبُهَا خِيفَةً، وأُمِّي، أَينَ هِيَ؟

فَأَطْرَقَتِ السَّيِّدَةُ أُمُّ كُلْثُومٍ رَأْسَهَا صَامِتَةً لا تُجِيبُ، وأمَّا السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها فَغَادَرَتِ الغُرْفَةَ بَاكِيَةً حَزِينَةً.

هُنَاكَ كَفَّتْ رُقَيَّةُ عَن أَسْئِلَتِهَا، وسَارَتْ مُتَرَنِّحَةً نَحْوَ مَخْدَعِ أُمِّهَا حَيْثُ تَهَالَكَتْ على فِرَاشِهَا، جَامِدَةَ العَيْنِ، زَائِغَةَ البَصَرِ، مُثْلَجَةَ الأَطْرَافِ، حَتَّى جَاءَ أَبُوهَا وحَبِيبُهَا ومُصْطَفَاهَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَأَذَابَ ذلكَ الجُمُودَ بِحَرَارَةِ لِقَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأَزَاحَ بِحُنُوِّهِ مَا رَانَ على قَلْبِ ابْنَتِهِ السَّيِّدَةِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها من أَثَرِ الصَّدْمَةِ، ثمَّ أَوَتْ إلى الصَّدْرِ الرَّحْبِ الكَرِيمِ، وثَابَتْ إلى السَّكِينَةِ والصَّبْرِ.

هِجْرَةُ السَّيِّدَةِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: ولَمْ يَطُلِ المُقَامُ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ للسَّيِّدَةِ رُقَيَّةَ وَزَوْجِهَا سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، حَتَّى هَاجَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هوَ وصِدِّيقُهُ الأَكْبَرُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ؛ اِرْتَحَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وتَرَكَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ زَوْجَتَهُ سَوْدَةَ بِنْتَ زُمْعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، وبِنْتَيْهِ أُمَّ كُلْثُومٍ وفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

وأمَّا السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ فَهَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

وأمَّا السَّيِّدَةُ زَيْنَبُ رَضِيَ اللهُ عَنها فَمَا زَالَتْ في بَيْتِ زَوْجِهَا أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، ولَمْ يَكُنِ الإِسْلامُ قَد فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدُ.

المَوْلُودُ الجَدِيدُ للسَّيِّدَةِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها:

أيُّها الإخوة الكرام: صَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

فَقَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِن النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الإمام أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. وإِنْ لَمْ يَكُنْ آلُ البَيْتِ من الصَّالِحِينَ، فَمَن؟

لقد هَاجَرَتِ السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللهُ عَنها الهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ زَوْجِهَا سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وخَلَّفَتْ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ أَخَوَاتِهَا الثَّلاثَةَ، السَّيِّدَةَ زَيْنَبَ، والسَّيِّدَةَ أُمَّ كُلْثُومٍ، والسَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ؛ وكَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنها قَد رُزِقَتْ طِفْلاً اسْمُهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما؛ لقد ظَنَّتِ السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللهُ عَنها أَنَّهَا بهذا الطِّفْلِ سَتَنْسَى لَوْعَةَ مُصَابِهَا في أُمِّهَا، ومَا ذَاقَتْ في هِجْرَتِهَا من شَجَنِ الغُرْبَةِ.

ولكن في جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ من الهِجْرَةِ مَاتَ وَلَدُهَا عَبْدُ اللهِ في السَّادِسَةِ من عُمُرِهِ بِنَقْرَةٍ من دِيكٍ، فَصَلَّى عَلَيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ونَزَلَ وَالِدُهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ في حُفْرَتِهِ، وهذهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ قَاسِيَةٌ تَعَرَّضَتْ لَهَا السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللهُ عَنها، وَوَقَعَتْ صَرِيعَةَ المَرَضِ بِمَرَضِ الحَصْبَةِ، ولَزِمَتِ الفِرَاشَ من شِدَّةِ الأَلَمِ والمَرَضِ.

وَفَاةُ السَّيِّدَةِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها:

أيُّها الإخوة الكرام: الحَيَاةُ الدُّنيَا حَيَاةُ اخْتِبَارٍ وابْتِلاءٍ، والسَّعِيدُ مَن وُفِّقَ للشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وللصَّبْرِ عِنْدَ البَلاء.

لقد لَزِمَتِ السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ فِرَاشَ المَرَضِ، وفي هذا الوَقْتِ دَعَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ للخُرُوجِ إلى بَدْرٍ، وسَارَعَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ للخُرُوجِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، إلا أَنَّهُ تَلَقَّى أَمْرَاً بالبَقَاءِ إلى جَانِبِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها لِتَمْرِيضِهَا، وَامْتَثَلَ لهذا الأَمْرِ بِنَفْسٍ رَاضِيَةٍ، وَبَقِيَ إلى جِوَارِ زَوْجَتِهِ الصَّابِرَةِ الطَّاهِرَةِ رُقَيَّةَ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِذِ اشْتَدَّ بِهَا المَرَضُ، وَطَافَ بِهَا شَبَحُ المَوْتِ، كَانَتْ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللهُ عَنها تَجُودُ بِأَنْفَاسِهَا وَهِيَ تَتَلَهَّفُ لِرُؤْيَةِ أَبِيهَا الذي خَرَجَ إلى بَدْرٍ، وَرُؤْيَةِ أُخْتِهَا زَيْنَبَ في مَكَّةَ، وَجَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَرْنُو إِلَيهَا من خِلالِ دُمُوعِهِ، والحُزْنُ يَعْتَصِرُ قَلْبَهُ، وَدَّعَتْ نَبْضَ الحَيَاةِ وَهِيَ تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ، وَلَحِقَتْ بالرَّفِيقِ الأَعْلَى، وَلَمْ تَرَ أَبَاهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ بِبَدْرٍ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ، يُعْلُونَ كَلِمَةَ اللهِ، فَلَمْ يَشْهَدْ دَفْنَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَجُهِّزَتْ رُقَيَّةُ، ثمَّ حُمِلَ جُثْمَانُهَا الطَّاهِرُ على الأَعْنَاقِ، وَقَد سَارَ خَلْفَهُ زَوْجُهَا وَهُوَ حَزِينٌ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الجِنَازَةُ البَقِيعَ، دُفِنَتْ رُقَيَّةُ هُنَاكَ، وَقَد انْهَمَرَتْ دُمُوعُ المُشَيِّعِينَ، وَسُوِّيَ التُّرَابُ على قَبْرِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَفِيمَا هُمْ عَائِدُونَ إِذْ بِزَيْدِ ابْنِ حَارِثَةَ قَد أَقْبَلَ على نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُبَشِّرُ بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَقَتْلِ المُشْرِكِينَ، وَأَسْرِ أَبْطَالِهِم، وَتَلَقَّى المُسْلِمُونَ في المَدِينَةِ هذهِ الأَنْبَاءَ بِوُجُوهٍ مُسْتَبْشِرَةٍ بِنَصْرِ اللهِ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَكَانَ من بَيْنِ المُسْتَبْشِرِينَ وَجْهُ عَثْمَانَ الذي لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْفِيَ آلامَهُ لِفَقْدِهِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

وَبَعْدَ عَوْدَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَلِمَ بِوَفَاةِ رُقَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، فَخَرَجَ إلى البَقِيعِ وَوَقَفَ على قَبْرِ ابْنَتِهِ يَدْعُو لها بالغُفْرَانِ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ ومُصَابَرَةٍ، حَتَّى يَفُوزَ العَبْدُ بِسَعَادَةِ الآخِرَةِ، ويُكْرِمَهُ اللهُ تعالى بالمَعِيَّةِ ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنهُم. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 3/شعبان /1435هـ، الموافق: 21/أيار/ 2015م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم

13-03-2020 1395 مشاهدة
170ـ موقف الفاروق رضي الله عنه من شارب الخمر

نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد

 13-03-2020
 
 1395
13-02-2020 1951 مشاهدة
169ـ هكذا كان أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد

 13-02-2020
 
 1951
23-01-2020 2585 مشاهدة
168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد

 23-01-2020
 
 2585
16-01-2020 990 مشاهدة
167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد

 16-01-2020
 
 990
09-01-2020 1327 مشاهدة
166ـ حب سيدنا الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد

 09-01-2020
 
 1327
03-01-2020 1023 مشاهدة
165ـ صاحب رسول الله منذ أن بعث

زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد

 03-01-2020
 
 1023

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412727616
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :