39- خطبة الجمعة: شهر رمضان شهر المواساة

39- خطبة الجمعة: شهر رمضان شهر المواساة

 

أما بعد فيا عباد الله: ذكرت لكم في الأسبوع طرفاً من حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خاطب الأمة في آخر ليلة من شهر شعبان وقال لها: (يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة) [رواه ابن خزيمة]. وقفنا عند هذه الفقرة، وقلنا إنه ينبغي على الإنسان المسلم أن يغتنم الفرص، وأن يغتنم أنفاس عمره وخاصة في الأوقات المباركة، وأن يزيد في اغتنام الوقت في الأوقات المباركة في التقرب إلى الله عز وجل، وقلنا عن شهر الصبر أنه صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الابتلاء، ولكننا نرى الكثير صبر على الطاعة أياماً ما تجاوزت أسبوعاً فإذا به قصَّر في المحافظة على هذه الطاعة، يا أخي تذكر قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يقول: (شيبتني هود وأخواتها) [رواه عبد الرزاق]، لقول الله عز وجل في سورة هود: {فاستقم كما أمرت}، والاستقامة تعني الاستمرارية، قال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، أما أن تستمر وتحافظ على الطاعات أياماً قليلة، ثم بعد ذلك تفتر همتك؟ فإذا فترت همتك وأنت في شهر رمضان الذي صفدت فيه الشياطين، وفتحت فيه أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، فإن فتورك في الهمة بعد رمضان سيكون من باب أولى وأولى.

أيها الإخوة: اغتنموا شهر رمضان المبارك، ها هو ثلثه الأول قد ولى، وكم وكم من رمضان مرَّ عليك؟ فهل اغتنمت تلك الأيام؟ لذلك عندما خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك) فهذا الخطاب من أجل اغتنام هذا الشهر العظيم المبارك.

ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وهو شهر المواساة)، المواساة أن تتفقد إخوانك وأبناء جنسك وأبناء مجتمعك وأبناء حيك، وأن تسعى في كل أيام حياتك لتفريج كربهم وخاصة في شهر رمضان المبارك، شهر رمضان شهر المواساة، لعلنا أيها الإخوة ونحن في هذا الشهر العظيم المبارك أن ننطلق من هذا اليوم في مواساة أبناء مجتمعنا، في مواساة أصحاب الحاجة، وأن نجعل هذا رصيداً لأنفسنا عند ربنا جل وعلا، لا تكن مجروح الفؤاد إذا واسيت إنساناً فقابل إحسانك بالإساءة، وتقسم بعد ذلك يميناً ألا تصنع معروفاً، {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا} فلا تقسم يميناً بألا تصنع معروفاً، لأنك إذا أقسمت يميناً ألا تصنع معروفاً، فاعلم أنك صنعت المعروف بدايةً لغير الله، ولم يكن عندك الإخلاص حتى فوجئت، ولكن المؤمن أيها الإخوة يواسي غيره وهو ينظر إلى الله ويتعامل مع الله، ولا يطلب جزاءً على المواساة من فقير مثله، إنما يطلب هذا من الله عز وجل.

انظروا أيها الإخوة إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما عاد من غار حراء يرتجف فؤاده وهو يقول لأمنا السيدة خديجة رضي الله عنها: (زملوني، إني قد خشيت على نفسي)، فقالت أمنا الجليلة التي أقراها ربنا السلام من فوق سبع سماوات عن طريق سيدنا جبريل وقال له: يا محمد اقرأ على خديجة السلام من ربها [رواه البخاري]، أسأل الله أن يحشرنا في ظلال جناحها يوم القيامة بمعية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه السيدة الجليلة التي هيأت السكن لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي هيأت الفرصة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمة دين الله، وما أجمل المرأة التي تهيئ الجو لزوجها من أجل خدمة دين الله عز وجل!

قالت رضي الله عنها: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً) على أي أساس تقسم بالله وهي لا تعلم بعد بأنه رسول الله، لأنها لو علمت أنه رسول الله فالأمر طبيعي، لأن الله يتولى رسله، ولكن حكمت بأن الله لا يخزيه أبداً قبل الرسالة، فعلى أي أساس؟ تقول رضي الله عنها: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) [رواه البخاري ومسلم]. الذي يصنع المعروف أيها الإخوة، والذي يقوم بواجب المواساة للمسلمين لا يخزيه الله أبداً، على أن يكون عمله خالصاً لوجه الله، على أن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.

كن مواسياً، لأن الله شاء أن يجعلنا متفاوتين، وأن يجعلنا درجات، وأن يجعل فينا قوياً وضعيفاً، وغنياً وفقيراً، ورئيساً ومرؤوساً، ورجلاً وامرأة، وصاحب حاجة وغنياً عن الحاجة، الله عز وجل جعلنا متفاوتين اختباراً وابتلاء، وقال لنا: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة}، فيا أيها الكبير والرئيس والغني، ويا صاحب العلم والجاه والمنزلة أتتفقد من هو دونك في هذا المجتمع؟ أم أنك تغمض الطرف وتستغل نعمة الله لذاتك فقط؟ ما وسَّع الله عليك في المال، وما وسع عليك في الجاه والمنزلة، وما ألقى عليك المحبة بين الناس إلا لتكون مواسياً لمن حُرم هذه النعمة، (وهو شهر المواساة)، فأين مواساتنا أيها الإخوة؟ وأين الذي يتعامل مع الله؟ وأين الذي لا ينتظر المدح والثناء من الناس؟

في مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أناس يعيشون ولا يدرون من أين يأتيهم رزقهم، حتى مات سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، فعندما مات فقد الناس رزقهم. أين الذين كان يأتينا ليلاً ولا نعرفه؟ الذي نقول نحن عنه: جابر عثرات الكرام، الذي يعطي ولا يريد أن يعرف بأنه هو المعطي، لأنه التزم حده وعرف نفسه بأنه عبد لله، لا تقل عن نفسك أنا الذي أعطي، ولا تقل عن نفسك أنا الذي أفرج الكروب وأغيث الملهوف، الحقيقة أن المعطي هو الله، وأنت واسطة، فلك الشرف أن استخدمك الله في إغاثة ملهوف، ولك الشرف بأن استخدمك الله عز وجل بتفريج كرب إنسان مسلم موحِّد.

لذلك أيها الإخوة اعملوا لله، وكونوا حريصين ألا تُعرَفوا في المجتمع بأنكم تعملون، هذا إذا أردنا الأجر من عند الله عز وجل، وإذا كنا مستحضرين الموقف يوم القيامة، وعرصات يوم القيامة ما أدراك ما هي؟ والكربات يوم القيامة ما أدراك ما هي؟ عندما تدنو الشمس من الرؤوس بمقدار ميل، والناس يغوصون في عرقهم كل على حسب عمله، وفي أرض المحشر كم يتمنى العبد أن يفرج الله كربه، أتريد أن يفرج الله كربك يوم القيامة؟ نعم، ففرج كربة إنسان مسلم في الحياة الدنيا، وغيِّب نفسك بعد القيام في هذا العمل لأنك تنظر إلى الله عز وجل.

ينبغي عليك أن تبحث عن الملهوف، فبالله عليك كيف لو أنه أتاك آت وطلب منك أن تفرج عنه وأن تغيثه؟ جاء رجل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني مجهود. وطبعاً أيها الإخوة قد يقول أحدنا: هناك من اتخذ المسألة صنعة له وسبباً للكسب، نعم أقول لك بحق هناك من اتخذ هذا صنعة له، ولكن إن وجدت أناساً اتخذوا المسألة صنعة لهم أيمنعك هذا من أن تبحث أنت عن المجهود، ابحث، وادخل بيوت الناس، وتقصَّ الحقائق، فإن كنت عاجزاً فهناك جمعيات خيرية أيها الأخ الكريم، قاموا بهذه المهمة، فتوجه إليهم، وإذا كنت تشك في هذه الجمعيات والقائمين عليها، أنا لا أقول عليك أن تلزم نفسك بهذه الجمعيات، فإن كان عندك شك فاذهب إلى هذه الجمعيات واطلب منهم أن يدلوك على تلك البيوت، وقم أنت بنفسك بالبحث عن المجهود، وعن صاحب الحاجة، فإذا ما اطمأن قلبك فقم بإغاثة هذا الملهوف. نعم غفر الله لهؤلاء الذين اتخذوا المسألة صنعة لهم لأنهم منعوا الخير في هذا المجتمع، وأقول: غفر الله لمن منع الخير لأنه كان يتعامل مع الخلق ولا يتعامل مع الله.

ابحث أنت عن المجهود، وتقصَّ أخباره، ما الذي يمنعك أن تتفرغ في كل يوم أن تبحث لمدة عشر دقائق أو ربع ساعة عن بيت أو بيتين لتتيقن أن هؤلاء من أصحاب الحاجة، أفضل من أن تجلس للنظر إلى المسلسلات على شاشة التلفاز.

جاء هذا الرجل في مجتمع الصدق، وقال: يا رسول الله إني مجهود، فماذا فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أرسل صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله)؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأضيئي السراج، وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف، ـ وبات الرجل مع زوجته وصبيانه على الجوع ـ. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) وفي رواية: ونزلت هذه الآية: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [رواه مسلم].

يا عبد الله، ما أنت قائل لربك وأنت تضيع أنفاس عمرك باللهو واللعب، وهي رأسمالك الذي ستسأل عنه يوم القيامة، اغتنموا الفرصة أيها الإخوة، أنفاسنا معدودة، في كل يوم نسمع مات فلان وماتت فلانة، وسليم مات ومريض مات، سنموت أيها الإخوة، فاغتنموا الفرصة، فهذا الشهر شهر المواساة.

أيها الإخوة: اعملوا لله، {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً}، استغل نعمة المال والجاه، واستغل نعم الله عليك قبل أن تأتيك سكرات الموت، واعتبر من ذلك الرجل الذي أدركته سكرات الموت فقال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت.

أيها الإخوة: شهر رمضان شهر المواساة، وشهر المواساة يعني ينبغي عليك أن تتفقد أصحاب الحاجة وما أكثرهم في هذا المجتمع. أسأل الله أن يجعلني الله وإياكم من أهل المواساة ومن أهل الاستقامة، أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 2007-09-21
 13043
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 200 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 200
12-04-2024 893 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 893
09-04-2024 604 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 604
04-04-2024 709 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 709
28-03-2024 627 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 627
21-03-2024 1120 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1120

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413688788
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :