34- خطبة الجمعة: شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين

34- خطبة الجمعة: شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين

 

أما بعد فيا عباد الله: لقد ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من الصيام في شهر شعبان، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب هذا الصوم في شهر شعبان، فقال النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) [رواه النسائي].

سيدي يا رسول الله: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً أمته، وإني أسأل الله عز وجل في هذه الساعة المباركة أن يوفقني والحاضرين والمسلمين إلى اتباع نهجك وسنتك، لأنه بحق يا سيدي يا رسول الله أن أكثر الناس في حالة غفلة عن الله عز وجل، وربما أن يكون ذلك خاصة في شهر شعبان المعظم.

لو فكرنا أيها الإخوة بعمل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يرفع إلى الله، فأحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوج هذا العمل الذي يرفع إلى الله، بالصيام، ما هو هذا العمل؟

من جملة عمله تنفيذ قوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} وأعظم شرف لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مبلغاً عن الله عز وجل، فهو سيد الأنبياء والمرسلين يبلغ رسالة الله، وكان يحب أن يرفع هذا العمل وهو صائم، عن الطعام والشراب والنساء، وجوارحه صلى الله عليه وسلم صائمة عما حرَّم الله عز وجل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي على الأرض، أحل حلاله، وحرَّم حرامه، يبلغ عن الله فيرفع هذا العمل مع صيام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن جملة الأعمال التي ترفع إلى الله عز وجل من أعمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجهاد في سبيل الله، فيرفع هذا العمل مع صيام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن جملة العمل الذي قام به سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإصلاح، إصلاح المجتمع، وإصلاح ذات البين، والإصلاح بين الإخوة، وإصلاح العبد مع ربه عز وجل، فكان مصلحاً عليه الصلاة والسلام، فكان يحب صلى الله عليه وسلم أن يرفع هذا العمل إلى الله وهو صائم، تشبهاً بالملائكة الكرام الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون.

ومن جملة العمل الذي قام به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: التبتل إلى الله، {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً}. ثم يقول مولانا: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} فأحب صلى الله عليه وسلم أن يرفع هذا العمل إلى الله عز وجل وهو صلى الله عليه وسلم صائم.

ومن جملة العمل الذي كان يقوم به صلى الله عليه وسلم حسن أخلاقه مع نسائه، ومع أهل بيته، لأنه صلى الله عليه وسلم هو القائل: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح]، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله هذا إلى الله عز وجل وهو متوج بالصيام.

أيها الإخوة: سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته الكريمة، من أقوال وأفعال ونوايا كلها كاملة، ومع كمالها تُوِّجت بالصيام في شهر شعبان لترفع إلى الله عز وجل بهذا الشكل وبهذا الحال. تُرى أيها الإخوة أتكون هذه الأعمال الصالحة مع الصيام مقبولة عند الله عز وجل أم مرفوضة؟ مما لا شك فيه ستكون هذه الأعمال مقبولة عند الله عز وجل.

أما أنا وأنت يا أخي المسلم، أعمالنا ترفع إلى الله، وفي شهر شعبان خاصة، ما هي هذه الأعمال التي تصدر مني ومنك وترفع إلى الله عز وجل؟ هل هي أعمال تبيض الوجه أم تسوده والعياذ بالله؟

أصبحنا في زمن كثر فيه الهرج ـ القتل ـ في مشارق الأرض وفي مغاربها، المسلمون يقتل بعضهم بعضاً، وهذا ما نراه في أصقاع الدنيا، من العراق إلى فلسطين إلى غيرها من الدول، ترفع الأعمال إلى الله، أي عمل؟ كثرة الهرج، وهل ترفع هذه الأعمال مع الصيام؟ على العكس من ذلك تماماً، كَثُر الهرج والقتل فينا، المسلم يقتل أخاه على عرض من الدنيا زائل.

ترفع أعمالنا إلى الله. أي عمل؟ قطيعة الرحم القائمة بيننا نحن رواد المساجد، الذين نشهد الجمعة والجماعات، ويا حبذا لو أننا قرنّا هذا بصوم، ومن صامت جوارحه عن الطعام والشراب امتثالاً لأمر الله صامت جارحة القلب عنده عن البغضاء والحقد والحسد فوصل رحمه. قطيعة للرحم ترفع إلى الله، فما نحن قائلون لله عز وجل؟

ترفع الأعمال إلى الله. أي عمل؟ المعاملات الربوية التي تفشت في مجتمعنا وقل حياء الكثير فكأنهم نسوا قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}.

ترفع الأعمال إلى الله، وكل واحد يضمر في نفسه نحو أخيه ما لا يضمره شيطان على شيطان، ما هذا الحال أيها الإخوة؟ أعمالنا تعرض على الله عز وجل، فيا أيها الموظف والطبيب والمهندس والتاجر، ويا طالب العلم ويا صاحب اللحية ويا صاحب السبحة ويا صاحب المساجد أعمالك ترفع إلى الله، فهل هذا العمل يرضي ربنا عز وجل؟ ترفع إلى الله فيحصيها ربنا، وكما قال مولانا عز وجل: {أحصاه الله ونسوه}، ثم قال جل وعلا: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه}.

ما هي أعمالنا التي ترفع إلى الله عز وجل؟ حفلات الغناء حفلات يعصى فيها ربنا عز وجل، وتشرب فيها الخمور، وتعزف فيها القيان، والموسيقا إلى ما بعد منتصف الليل، ونسي القوم قول الله عز وجل: {إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد} نسي هؤلاء ربهم عز وجل، وكأننا في هذه الأيام نرفع أعمالنا إلى الله وهي ملطخة بالآثام والمعاصي والمنكرات والمخالفات، فما نحن قائلون لله عز وجل؟

أيها الإخوة: لو جاءتنا ابتلاءات من الله، واشتد البلاء علينا، فما هو موقفنا؟ سنلتجئ لأهل التقى والصلاح، ونطلب منهم الدعاء، ونقول: ادع الله لنا، وهذه الظاهرة متفشية في مجتمعنا، إذا جاء الابتلاء توجهت الأمة إلى الصالحين منها وقالوا لهم: أكثروا لنا من الدعاء.

كم مرة قلت لكم: إذا أصابنا القحط مباشرة تأتي التعاميم لأرباب المساجد لندعو الله عز وجل من أجل الاستسقاء، وأن نتوجه إلى القلة الذين قال فيهم مولانا: {وقليل من عبادي الشكور}. للقلة التي قال فيها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [رواه مسلم]. أن نتوجه إليهم من أجل الدعاء لنا.

التوكيل أيها الإخوة في كل شيء جائز، في معاملاتك المالية إذا وكلت فلا حرج، وكذلك في عقد نكاحك، أما أن توكل غيرك بأن يلتجئ إلى الله عنك من أجلك فهذا هو عين الاستكبار والعناد والإصرار على المخالفة، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر الأمة من الهلاك فقالوا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) [رواه البخاري ومسلم]. والخبث كثر في مجتمعنا، وعندما يكثر الخبث في الأمة ويتوجه هؤلاء إلى القلة قائلين: ادعو الله لنا، كأنهم يوكلونهم في الانكسار والتضرع إلى الله، وهيهات هيهات يا أخي، في كل شيء يجوز التوكيل، إلا أن توكل غيرك بانكسار القلب إلى الله عنك، فهذا توكيل ليس بصحيح شرعاً.

أيها الإخوة الكرام: (شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان) هل يا ترى نؤوب إلى الله، ونصطلح مع الله عز وجل؟ وهل يا ترى نغتنم فرصة شهر شعبان المعظم الذي تعرض فيه الأعمال إلى الله عز وجل؟ أم نحن على ما نحن عليه؟ إذا بقي الإنسان مصراً على عناده واستكباره، فليتذكر قول الله عز وجل: {إنه كان لآياتنا عنيداً * سأرهقه صعوداً}. أسأل الله ألا يجعلني وإياكم من المعاندين، وأسأل الله أن يكرمني وإياكم باتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأقوالنا وأفعالنا وأحوالنا وأخلاقنا. أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: سامحوني إن قلت: ما لي أرى البعض ما زال يأتي إلى بيت الله عز وجل وعلبة الدخان في جيبه؟ بالله عليك إلى متى سيبقى هذا حالك؟ وإلى متى ستبقى مصراً على بذل المال لشرب الدخان، ثم من بعد ذلك تدفع المال من أجل علاج نفسك؟ بالله عليك ألا تخشى على نفسك من أن تزل قدمك فتنتقل من الدخان إلى الخمر، ومن الخمر إلى شرب المخدرات؟ بالله عليك أما تخاف على ولدك أن يتعلم الدخان؟ بالله عليك أما تخاف على زوجك أن تتعلم الدخان؟ ما أنت قائل لربك وأنت أتيت إلى أعظم فريضة من فرائض هذه الصلاة ألا وهي صلاة الجمعة؟ لماذا لا تشرب السيجارة في بيت الله؟ لأنك ترى في ذلك نقصاً وخللاً، ولو كان الأمر مباحاً لشربته كما تشرب الماء، تدخل إلى بيت الله وتشرب الماء بدون حرج لأن الله أحل لك هذا، وبقرارة نفسك لا تجترئ ويمنعك إيمانك من أن تشرب الدخان في بيت الله، لماذا؟ والله لو لم تشعر بأن في ذلك حرجاً شرعياً لما فعلت هذا، (الحلال بين والحرام بين) [رواه البخاري]، بالله عليك يا أخي اهجر هذا الدخان الذي أضر بجسمك، وحولت المال لأعداء هذه الأمة ليقتلوا هذه الأمة، فما أنت قائل لربك يوم القيامة؟

أيها الإخوة: كثير من المحلات التجارية، وأرجو أن تنقلوا هذا لأصحاب هذه المحلات، منهم من يقول: إن محله التجاري لا ينطلق إلا بوجود الدخان، وهذا الكلام خطير، ويُخشى منه أن يؤثر على الإيمان. فاعلم يا أخي بأن الرزق على الله تعالى، واعلم قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.

واعلم يا بائع الدخان بأن الكسب الذي يأتيك من الدخان كسب حرام، لأن العلماء بعدما أن ثبت ضرر الدخان أفتوا أن شرب الدخان حرام، وزراعته حرام، وتصنيعه حرام، وبيعه حرام، والكسب الذي يدخل عليك منه حرام، فما أنت قائل لربك يوم القيامة يا صاحب المحل التجاري وعملك يرفع إلى الله؟ {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد}.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **      **

 2007-08-17
 8625
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 202 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 202
12-04-2024 899 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 899
09-04-2024 604 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 604
04-04-2024 709 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 709
28-03-2024 628 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 628
21-03-2024 1122 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1122

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413727063
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :