272ـ خطبة الجمعة: المؤمن ثابتٌ لا يتأثر ِبالمُغرِياتِ ولا بالوعِيدِ والتَّهديدِ

272ـ خطبة الجمعة: المؤمن ثابتٌ لا يتأثر ِبالمُغرِياتِ ولا بالوعِيدِ والتَّهديدِ

 

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

إنَّ العِبرةَ عندَ اللهِ بِالخَوَاتِيمِ، فَلا يَكفِي أن يَستَقِيمَ الإنسانُ رَدْحاً مِن الزَّمنِ ثمَّ يَرجِعَ القهقرى إلى الوراءِ، لِذلكَ جَاءَ التَّوجيهُ الرَّبَّانيُّ لِلمؤمنينَ بِالثَّباتِ على الدِّينِ الحقِّ، وعلى تَحليلِ الحلالِ وتَحريمِ الحرامِ، والوُقوفِ عندَ حُدودِ الشَّرعِ، وأن لا يَتَجَاوَزُوهُ قَيدَ أُنمُلةٍ حتَّى المماتِ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون}. وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِين}. فالعِبرةُ بِخَوَاتِيمِ الأمورِ.

روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: (فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ).

الثَّباتُ على الدِّينِ نِعمةٌ:

يا عباد الله، إنَّ الثَّباتَ على الدِّينِ، واتِّباعَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَدَمَ الابتِداعِ في دِينِ اللهِ تعالى، وَعَدَمَ الجُرأةِ على حُدودِ اللهِ تعالى نِعمةٌ إلهِيَّةٌ ومِنحةٌ رَبَّانِيَّةٌ يُكرِمُ الله تعالى به أحبابَهُ والخيَرَةَ من خَلقِهِ والصَّفوَةَ من عِبادِهِ، قال تعالى: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. وقال تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.

أسألُ اللهَ تعالى أن لا يَحرِمَنا هذهِ النَّعمةَ حتَّى لا نَندَمَ عندَ سَكَراتِ الموتِ، ولا في أرضِ المحشرِ، لأنَّ المُبتَدِعَ في دِينِ اللهِ، والمُجتَرِئَ على حُدودِ الشَّرعِ، والمتَعَدِّي على شرعِ اللهِ، نادمٌ وربِّ الكعبةِ، فَعِندَ سَكَرَاتِ الموتِ سيقولُ: {رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}. وفي أرضِ المحشرِ سَوفَ يَتَمَنَّى لو أنَّهُ اتَّبَعَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يقولُ اللهُ تعالى عن مثلِ هذا العبدِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً}. سَوفَ يَندَمُ المجرمُ في أرضِ المحشرِ، ويَتَمَنَّى العودَةَ إلى دارِ العملِ من أجلِ العملِ الصَّالِحِ، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُون}. هل سَمِعَ المجرمُ هذهِ الآيةَ الكريمةَ؟ هل سَمِعَ قاتِلُ الأبرياءِ، ومُرَوِّعُ الأطفالِ والرِّجالِ والنِّساءِ والضُّعفاءِ، وآكِلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ، ومُهَدِّمُ البيوتِ، ومُرَمِّلُ النِّساءِ، ومُيَتِّمُ الأطفالِ، وهاتِكُ الأعراضِ، هذه الآيةَ الكريمةَ؟

يَتَمَنَّى هذا المجرمُ بَعدَ أن أصبحَ عالَمُ الغيبِ عالَمَ شَهادةٍ أن يُرجِعَهُ اللهُ تعالى إلى الدُّنيا لِلعملِ الصَّالِحِ، ولكن هَيهَاتَ! لقد انتهى التَّكليفُ وجاءَ الجزاءُ على العملِ، لقد انتهى وقتُ الاختبارِ والابتلاءِ والامتحانِ، وجاءَ وقتُ الجزاءِ على العملِ، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَه}.

المجرمُ ما أجرَمَ إلا بِسبَبِ ضَعفِ الإيمانِ في قلبِهِ، أروني من استَحضَرَ وُقوفَهُ بَينَ يَدَيِ اللهِ تعالى، ويَجتَرِئُ على قَتلِ الأبرياءِ، وترويعِ الأطفالِ والنِّساءِ.

المؤمنُ لا يَتَأثَّرُ بِالمُغرِياتِ:

يا عباد الله، المؤمنُ الحقُّ لا يَتَأثَّرُ بِالمُغرِياتِ، وإليكم بعضَ هذِهِ الأمثلة:

أولاً: إن كُنتَ تريدُ مُلكاً ملَّكناكَ علينا:

فهذا الحبيبُ الأعظمُ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَعرِضُ عليه قريش المالَ والجاهَ والنِّساءَ لِتركِ دِينِهِ فَيَأبى.

جاء أبو الوليدِ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا أَبَا الوَلِيدِ أَسْمَعْ.

قَالَ: يَا بْنَ أَخِي، إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالاً جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفاً سَوَّدْنَاك عَلَيْنَا، حَتَّى لا نَقْطَعَ أَمْراً دُونَك، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ مُلْكاً مَلَّكْنَاك عَلَيْنَا؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ لا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِك، طَلَبْنَا لَك الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ. أورده ابن هشام في السيرة.

يا عباد الله، قريش تَعرِضُ على سيِّدنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وربُّنا جلَّت قُدرتُهُ يقولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاء إِلَى اللهِ}. فالفقراءُ يَعرِضونَ على سيِّدنا رسولِ اللهِ مالاً وجاهاً وسِيادَةً ورِيادَةً فَيأبى، وكيف لا يأبى هذا من الفقراءِ؟ وربُّنا عزَّ وجلَّ عَرَضَ عليه أن يكونَ نَبِيّاً مَلِكاً أو نَبِيّاً عَبْداً، فاختارَ العبوديَّةَ مع النُّبوَّةِ، ولم يختر الملكَ مع النُّبوَّةِ.

روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قال: (كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ  ذَاتَ يَوْمٍ وَجَبْرَائِيلُ عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يَا جَبْرَائِيلُ، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالحَقِّ مَا أَمْسَى لآلِ مُحَمَّدٍ سَفٌّ مِنْ دَقِيقٍ، وَلا كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ، فَلَمْ يَكُنْ كَلامُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ سَمِعَ هَزَّةً فِي السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: أَمَرَ اللهُ القِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَمَرَ إسْرَافِيلَ فَنَزَلَ إلَيْك حِينَ سَمِعَ كَلامَك، فَأَتَاهُ إسْرَافِيلُ فَقَالَ: إنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ مَا ذَكَرْت، فَبَعَثَنِي إلَيْك بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْك أَنْ أُسَيِّرَ مَعَك جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدًا وَيَاقُوتًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً، فَإِذَا أَرَدْت فَعَلْت، فَإِنْ شِئْت نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْت نَبِيًّا عَبْدًا، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ جَبْرَائِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ـ ثَلاثًا ).

يا عباد الله، عندما عَرَضت قريش هذا الأمرَ على سيِّدنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَرَضت عليه المُغرِياتِ، قال: يَا عَمَّاهُ، والله لَو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِيني وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أنْ أَتْرُكَ هذا الأمْرُ، مَا تَرَكْتُه حتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أو أهْلَكَ فِيه ما تَرَكْتُهُ. اهـ. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة. إنَّهُ ثَباتٌ على الحقِّ.

ثانياً: {مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}:

يا عباد الله، هذا سيِّدُنا يوسفُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تُعرَضُ عليه الشَّهَوَاتُ التي هيَ أشَدُّ الفِتَنِ على الرِّجالِ، كما يقولُ سيِّدُنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) رواه الإمام البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. تُعرضُ عليه النِّساءُ فَيَأبى، كما قال تعالى: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُون}. إنَّهُ ثَباتٌ على الحقِّ.

يا عباد الله، كم وكم من شبابنا فُتِنوا بِالنِّساءِ فضَيَّعوا عقيدتَهُم ودِينهُم بِسَبَبِ النِّساءِ، وارتَكَبوا جرائمَ القتلِ والسَّلبِ بِسَبَبِ النِّساءِ.

ثالثاً: {فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم}:

يا عباد الله، هذا سيِّدُنا سليمانُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُعرضُ عليه المالُ والهَدَايا فَيَأبى، قال تعالى حِكايةً على لِسانِ بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُون * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُون}. هذا هوَ المؤمنُ، لا يُمكنُ لِدُنيا فانيةٍ أن تُغرِيَهُ، ولا يُمكنُ أن يَبيعَ دِينَهُ بِعَرَضٍ من الدُّنيا، أو أن يتلاعَبَ بِدِينِ اللهِ في سبيلِ دُنيا فانيةٍ.

المؤمنُ عبدٌ للهِ تعالى، وليسَ عبداً لِدينارٍ أو درهمٍ، المؤمنُ يَعلمُ بأنَّ الدُّنيا ظِلٌّ زائِلً، وعَرَضٌ حائِلٌ، فمستحيلٌ وألفُ مستحيلٍ أن يَتَخَلَّى عن دِينِهِ بِسَبَبِ المُغرِياتِ.

المؤمنُ ثابتٌ لا يَتَأثَّرُ بِالوعيدِ والتَّهديدِ:

يا عباد الله، كما أنَّ المؤمنَ ثابتٌ لا يَتَأثَّرُ بالمُغرِياتِ، فهوَ ثابتٌ لا يَتَأثَّرُ بِالوعيدِ والتَّهديدِ، لأنَّه على يَقينٍ بقوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا}. وعلى يَقينٍ بقولِ سيِّدنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (واعلَمْ: أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمعتْ عَلَى أَنْ ينْفعُوكَ بِشيْءٍ، لَمْ يَنْفعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللهُ عليْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ) رواه الترمذي عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما. وعلى يَقينٍ بأنَّ المشيئةَ العُليا هيَ النَّافِذةُ، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

فالمؤمنُ لا يَتَأثَّرُ بِالوعيدِ ولا التَّهديدِ، وإليكم بعضَ هذِهِ الأمثلة:

أولاً: هيَ نفسٌ واحدةٌ تُلقى في هذا القِدْرِ:

يا عباد الله، هذا سيِّدُنا عمرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَجَّهَ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَسَرَهُ الرُّومُ، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ.

فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَأُشِرِكُكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي؟

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ، وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ العَرَبُ عَلَى أَنْ أرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، مَا فَعَلْتُ.

قَالَ: إِذًا أَقَتُلُكَ.

قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ.

قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرُّمَاةِ: ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَأْبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ.

ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ وَصَبَّ فِيهَا مَاءً حَتَّى احْتَرَقَتْ، ثُمَّ دَعَا بِأَسِيرَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهُوَ يَأْبَى.

ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا، فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ رَجَعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ فَأَبَى، قَالَ: فَمَا أَبْكَاكَ؟

قَالَ: أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ: هي نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى هَذِهِ السَّاعَةَ فِي هَذَا القِدْرِ فَتَذْهَبُ، فَكُنْتُ أشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعَرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تَلْقَى هَذَا فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي وَأُخَلِّيَ عَنْكَ؟

قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى المُسْلِمِينَ؟

قَالَ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى المُسْلِمِينَ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ أُقَبِّلُ رَأْسَهُ ويُخَلِّي عَنِّي وَعَنْ أُسَارَى المُسْلِمِينَ لَا أُبَالِي، قال: فَدَنَا مِنْهُ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الأُسَارَى.

فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَأُخْبِرَ عُمَرُ بِخَبَرِهِ.

فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَأَنَا أَبْدَأُ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ. اهـ . رواه البيهقي في شعب الإيمان.

ثانياً: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ}:

يا عباد الله، المؤمنُ لا يَتَأثَّرُ بِالوعيدِ ولا بِالتَّهديدِ، ولا يَحيدُ عن دِينِ اللهِ قَيدَ أُنمُلةٍ، قال تعالى في حقِّ سَحَرَةِ فرعونَ الذينَ أكرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِشرحِ صُدورِهم  لِلإسلامِ، وقد تَوَعَّدَهم فرعونُ وهَدَّدَهُم بقوله: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}.

 يا عباد الله، هذا هوَ مَنطِقُ الفراعنةِ مع مَن يُخالِفونَهُم، لأنَّهم لا يعرفونَ إلا لُغةَ القمعِ والبطشِ والتَّعذيبِ، لا يعرفونَ لُغةَ الحِوارَ، مُنطَلَقُهُم: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى}. ومَن خَالَفَهُم تَوَعَّدوهُ، والمؤمنُ الثَّابتُ على الحقِّ لا يُغَيِّرُهُ تهديدٌ ولا وعيدٌ، لذلكَ قال السَّحَرَةُ لفرعونَ كما أخبَرنا اللهُ تعالى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

خاتمة نسألُ الله تعالى حُسنَهَا:

يا عباد الله، الثَّباتُ على الحقِّ نِعمةٌ عظيمةٌ يُكرِمُ اللهُ تعالى بها مَن سَبَقَت لهم مِن اللهِ الحُسنى، فلا تَغييرَ ولا تَبديلَ في دِينِ اللهِ، لا في العُسرِ ولا في اليُسرِ، لا في القُوَّةِ ولا في الضَّعفِ، لا في تَرغيبٍ ولا في تَرهيبٍ، لأنَّ النِّعمةَ في الدُّنيا لا تَدومُ، كما أنَّ الشِّدَّةَ لا تَدومُ.

المؤمنُ ثابتٌ على الحقِّ لأنَّهُ يَطمَعُ في جنَّةٍ عَرضُها السماواتُ والأرضُ، المؤمنُ ثابتٌ على الحقِّ ولو جُرِّدَ من مالِهِ، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاء المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}.

ونحنُ لا نَتَمَنَّى الفِتنَةَ، ولا نَتَمَنَّى الابتلاءَ، ولا نَتَمَنَّى لِقاءَ العَدُوِّ، كما جاءَ في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ).

فالمؤمنُ ثابتٌ على الحقِّ ولو كَلَّفَهُ ذلك أن يكونَ مَعزولاً عن الناسِ جميعاً، فهؤلاءِ أصحابُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُوصِروا في الشُّعَبِ سَنواتٍ، وما بدَّلوا تبديلاً.

اللَّهُمَّ ثَبِّتنا بِالقولِ الثَّابِتِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 13 / جمادى الثانية/1433هـ، الموافق: 4/ أيار/ 2012م

 2012-05-04
 63497
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 44 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 44
12-04-2024 669 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 669
09-04-2024 562 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 562
04-04-2024 680 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 680
28-03-2024 572 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 572
21-03-2024 1002 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1002

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412894830
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :