38- خطبة الجمعة: رمضان شهر الصبر

38- خطبة الجمعة: رمضان شهر الصبر

 

أما بعد فيا عباد الله: قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة من شعبان مخاطباً الأمة: (يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة) [رواه ابن خزيمة].

الحديث طويل أيها الإخوة، ولكن أحببت أن أقف معكم ونحن في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك، أعاده الله علينا وعليكم وعلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها بجمع شملها بعد تمزق، وبجمع شملها على الكتاب والسنة. أحببت أن أقف معكم مع قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة)، أريد أن أخاطب كل واحد فيكم، كل صائم، وكل مصل، يا أيها الصائم المصلي، ويا أيها الرائد لبيوت الله عز وجل، ويا من أكرمك الله فكنت من رواد المساجد، ويا من أكرمك الله بالاستقامة، تعال واسمع إرشاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عندما يقول: (وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة)، والجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) [رواه الترمذي]، وإذا كانت سلعة الله غالية وهي الجنة، فإن الثمن ينبغي أن يكون كبيراً، لأنك عندما تشتري سلعة وتكون السلعة نافعة لك، وأنت حريص عليها، فمهما كان الثمن تنقده لحرصك على تلك السلعة.

أتريد الجنة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعم، أتريد أن تكون في الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم؟ نعم، تعال واسمع ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم: (وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة)، كن صابراً، وإن لم تكن صابراً فتجمَّل وتكلف الصبر شيئاً فشيئاً، لأن كل شيء يولد صغيراً ثم يكبر، فإن لم تكن صابراً فتصبَّر، وإن لم تكن حليماً فتحلَّم، وإن لم تكن صاحب خلق حسن فحاول أن تقلد أصحاب الخلق الحسن، وأن تتدرب شيئاً فشيئاً. كم وكم من أمور نجهلها وهي صعبة الوصول، ولكن بالتعلم وبإلزام النفس على الوصول إلى هذا الهدف نصل إلى ما نريد، فيا من يريد جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، خاطبك النبي صلى الله عليه وسلم أن تكثر من سؤال الله الجنة في شهر رمضان، (واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار) [رواه ابن خزيمة].

الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمنها الصبر، والصبر ينبغي علينا أن نتحلى به، لأن الله كلفنا وأمرنا بقوله: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} لعلك تفلح وتكون من أهل الجنة، لأنك إن وصلت إلى الآخرة ووقفت في أرض المحشر، وتطايرت الصحف، والقلوب بلغت الحناجر، ولا تدري أتقاد إلى جنة أم تقاد إلى نار، فإذا بصحيفتك تطايرت حتى وصلت إليك، أي يد تشل وأي أرض تتحرك في أرض المحشر لا تدري، فإذا بتوفيق من الله تحركت يدك اليمنى وأخذت كتابك بيمينك، وهذه علامة الفلاح والنجاح، وستقول في أرض المحشر على رؤوس الأشهاد: {هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}.

من هذا الذي يأخذ كتابه بيمينه؟ هو الصابر.

من هو الصابر؟ وعلى أي شيء يكون صابراً؟

احفظ كلمات ثلاث، فإن حفظت وعملت بما علمت سعدت بإذن الله، لعلك أن تتنبه لهذه الكلمات إن أردت الجنة، وما أظن أن واحداً فينا لا يريد الجنة، لولا أنك تريد الجنة لما أتيت في شدة الحر وأنت صائم، ما الذي جاء بك؟ أيوزع هنا مال؟ لا ورب الكعبة، أهنا جاه؟ نعم هنا جاه ولكن جاه بالله، أنت أتيت تريد الجنة، فيا مريد الجنة احفظ كلمات ثلاث: اصبر على الطاعة، واصبر عن المعصية، واصبر على البلاء.

كلمات سهلة، والعمل صعب، والثمرة طيبة، ألا وهي قول الله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} وطالما أن الثمرة هي الجنة بمعية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكل شيء يكون هيناً للوصول إلى تلك الثمرة.

صبر على الطاعة، الطاعة تحتاج إلى صبر، لأنك مأمور بالاستمرارية فيها، قال تعالى: {فاستقم كما أمرت}، فصلاة ركعتين سهلة، وصيام يوم سهل، ولكن الأمر يحتاج إلى صبر في الاستقامة على ذلك. والصبر على الطاعة يحتاج إلى مشقة وجهد أن تبذله، أراك تحافظ ولله الحمد في شهر رمضان على أربع صلوات في جماعة، ما أجمل بيوت الله عز وجل عندما ترى الرواد إلى بيوت الله في شهر رمضان في أربع صلوات، في صلاة الفجر والعشاء، والظهر والعصر، ما عدا صلاة المغرب، ففي صلاة المغرب بيوت الله خاوية على عروشها، لم يا أخي صليت تلك الصلوات في جماعة وتركت صلاة المغرب في جماعة؟ إن كنت جائعاً، فقد صبرت النهار كله، ألا تصبر دقائق لتطبيق سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول: (من تمسك سنتي عند فساد أمتي فله أجر مئة شهيد) [رواه البيهقي، والطبراني بلفظ: فله أجر شهيد]. وهي سنة صلاة الجماعة في المغرب، بيوت الله خاوية إلا من الإمام والمؤذن، وربما يكون الإمام غائباً، قولوا أيها الإخوة لأئمتنا وللمؤذنين ولخُدَّام المساجد: كونوا في الأوقات الخمسة في بيوت الله، لأنكم تتقاضون على ذلك أجراً، أتأخذ أجراً وأنت تصلي في بيتك؟ يا سبحان الله! حافظ على صلاة المغرب في جماعة، والأمر يحتاج إلى صبر، وهذا الصبر ثوابه الجنة.

وصبر عن المعصية، اصبر عن معصية الله، لأنني والله أخشى على نفسي وأخشى على كل واحد فينا وعلى كل مسلم أن يموت على معصية، لأن الله يقول: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} تصور لا قدر الله لو ختم لك وأنت في المعصية، فما أنت قائل لربك؟ أنت تلعب بالطاولة وفي يدك الزهر، وإذا بملك الموت أخذت روحك لا قدر الله وأنت في هذه الحالة، أتستوي مع رجل جاءه ملك الموت وأخذ روحه وكتاب الله بين يديه؟ هل يستوي هذا مع هذا؟ ما تقول لربك إذا ختم لك على معصية؟ واللعب بالطاولة من الكبائر، لا تقل: أسلي صيامي، أتسلي الطاعة بمعصية الله في الكبائر؟ اصبر عن المعصية لأنك لا تدري متى ينتهي أجلك، والله لو أنك تعلم بأنك لن تموت أثناء المعصية فافعل ما تشاء، ولكن لا تدري متى ينتهي الأجل، فما أنت قائل لربك إن ختم لك على المعصية؟

وصبر على البلاء، اصبر على إساءة الآخرين إليك، وقابل الإساءة بالإحسان، {ادفع بالتي هي أحسن}، صل من قطعك، واعف عمن ظلمك، وأحسن لمن أساء إليك، كن حليماً، وكن واسع الصدر، وخاصة بعد العصر إلى أذان المغرب. بكل أسف أيها الإخوة، من العصر إلى الغروب لا أدري ماذا يحصل علينا؟ انظر إلى شوارعنا وطرقاتنا وأنفسنا في بيوتنا بعد العصر إلى المغرب كأن العقول تكاد أن تخرج من الرؤوس، ويقول أحدهم: إني صائم، هل تمنُّ على الله بصومك؟ أما علمت بأن الله يقول في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) [رواه البخاري]، لا يعلم أجر الصائم إلا الله، أتمنُّ على الله بصومك وتقول للناس: إني صائم، تعني أن يعفوا عن سيئاتك، لا يا أخي، كنت حليماً، ودرِّب أبناءك على الحلم والصبر، وخاصة إذا كان يقود دراجة أو سيارة أن يمشي بتؤدة ويؤثر الآخرين على نفسه، وأن يتحلى بالصبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة).

فيا أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أنفاسنا معدودة، وعمرنا له بداية عرفناها، وله نهاية لا ندري متى تكون، وربما أن تكون هذه اللحظة هي النهاية، أسأل الله أن يختم لي ولكم على الإيمان الكامل.

أيها الإخوة: يا من لكم بداية ونهاية، استغلوا أنفاس عمركم في كثرة القربات إلى الله، كما يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: الليل والنهار يعملان فيك يا بن آدم فاعمل أنت فيهما. وتذكروا أيها الإخوة إن قصرتم قول الله عز وجل: {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً}، ونحن نقول: يا رب، نسألك بأسماء الحسنى، وبصفاتك العلى، أن توفقنا للعمل الصالح، وأن نكون صابرين على الطاعة، وصابرين عن المعصية، وصابرين على البلاء، وأن نتحلى بأخلاق الأنبياء، الله أكرمنا بذلك، وأكرم أصولنا وفروعنا وأزواجنا وأهل بلدتنا وسائر بلاد المسلمين بالصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى البلاء، وأكرمنا يا ربنا بعد ذلك بجنة عرضها السماوات والأرض، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 2007-09-14
 14180
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-03-2024 132 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 132
21-03-2024 656 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 656
14-03-2024 997 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 997
08-03-2024 872 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 872
09-02-2024 2559 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2559
02-02-2024 2271 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2271

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412026790
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :