431ـ خطبة الجمعة: هون عليك وكن بربك واثقاً

431ـ خطبة الجمعة: هون عليك وكن بربك واثقاً

 

 431ـ خطبة الجمعة: هون عليك وكن بربك واثقاً

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ هذهِ الدُّنيَا مَلِيئَةٌ بالمَصَائِبِ والرَّزَايَا والمِحَنِ والبَلايَا، إلى جَانِبِ مَا فِيهَا من مِنَحٍ وعَطَايَا لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، هذهِ الدَّارُ دَارُ شِدَّةٍ ورَخَاءٍ، دَارُ سَرَّاءَ وضَرَّاءَ، دَارُ مَرَحٍ وتَرَحٍ، ودَارُ ضَحِكٍ وبُكَاءٍ، ودَارُ عِزٍّ وذُلٍّ، ودَارُ خَوْفٍ وأَمَانٍ، هذهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا دَارُ ابْتِلاءَاتٍ يَعْتَبِرُ بِهَا المُعْتَبِرُونَ، ويَغْتَنِمُهَا المُوَفَّقُونَ، ويَهْلَكُ بِهَا الهَالِكُونَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، كَم نَرَى من أَصْنَافِ الشَّاكِينَ البَاكِينَ، هذا يَشْكُو من عِلَّةٍ وسَقَمٍ، وهذا يَشْكُو من فَقْرٍ وحَاجَةٍ، وهذا يَبْكِي على فِرَاقِ حَبِيبٍ أو قَرِيبٍ، وهذا يَبْكِي على عَرَضٍ من أَعْرَاضِ الدُّنيَا.

﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن آمَنَ باللهِ تعالى وباليَومِ الآخِرِ، وعَرَفَ حَقِيقَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا سَلَّمَ لِرَبِّهِ في قَضَائِهِ وقَدَرِهِ، فَتَرَاهُ صَابِرَاً على الضَّرَّاءِ، وشَاكِرَاً على السَّرَّاءِ، وطَائِعَاً لِرَبِّهِ في حَالَتَيِ الشِّدَّةِ والرَّخَاءِ، ويَذْكُرُهُ في جَمِيعِ الآنَاءِ، لِعِلْمِهِ أنَّ اللهَ تعالى مَعَ عَبدِهِ مَا ذَكَرَهُ، وأَنَّهُ عِنْدَ ظَنِّهِ بِهِ، وأَنَّهُ يَبْتَلِي العَبدَ بالخَيرَ وضِدَّهُ لِيَخْتَبِرَ صِدْقَهُ وصَبْرَهُ وإِيمَانَهُ، ولِيُظْهِرَ تَوَكُّلَهُ على رَبِّهِ وحُسْنَ ظَنِّهِ بِهِ، ولِيُعْظِمَ مَثُوبَتَهُ ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ، ولِيُظْهِرَهُ للنَّاسِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ أنَّ هذا العَبدَ أَهْلٌ لِكَرَامَتِهِ، وصَالِحٌ لِمُجَاوَرَتِهِ في جَنَّتِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، المُؤمِنُ الحَقُّ هوَ الذي تَعَلَّقَ بِرَبِّ العَالَمِينَ، وأَعرَضَ بِقَلْبِهِ عن الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، المُؤمِنُ الحَقُّ لا يَضِيقُ صَدْرُهُ إذا نَزَلَتْ بِهِ كَارِثَةٌ، أو حَلَّتْ بِهِ مُصِيبَةٌ، المُؤمِنُ الحَقُّ لا يَتَرَقَّبُ المَهَالِكَ، ولا يَضِيقُ صَدْرُهُ، ولا يَنْفُذُ صَبْرُهُ، ولا تَضْطَرِبُ نَفْسُهُ، ولا يُسِيءُ ظَنَّهُ، ولا تَكْثُرُ هُمُومُهُ، ولا تَتَوَالَى غُمُومُهُ، ولا يَتَعَلَّقُ بِمَن لا يَمْلِكُ نَفْعَهُ ولا ضُرَّهُ من الخَلْقِ، ولا يَيْأَسُ من رَوْحِ اللهِ، ولا يَقْنَطُ من رَحْمَتِهِ، لأَنَّهُ على يَقِينٍ من قَولِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، الأُمُورُ كُلُّهَا بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. وقَضَاءُ اللهِ وقَدَرُهُ في حَقِّ العَبدِ المُؤمِنِ كُلُّهُ خَيرٌ، وقد قَالَ سَيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمَاً ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

هَوِّنْ عَلَيكَ، وكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ، كَم من مِحْنَةٍ في طَيِّهَا مِنَحٌ ورَحَمَاتٌ؟ وكَم من مَكْرُوهٍ يَحِلُّ بالعَبدِ يَنَالُ بِهِ رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، وجَلِيلَ الكَرَامَاتِ؟ وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿واللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، هَوِّنُوا على أَنفُسِكُم، وكُونُوا وَاثِقِينَ بِرَبِّكُم، واطْرَحُوا هُمُومَكُم وأَحْزَانَكُم في بَابِ مَن لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ، في بَابِ مَن لا يُعْجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ ولا في السَّمَاءِ، ورَحِمَ اللهُ تعالى من خَاطَبَ المَهْمُومَ المَحْزُونَ بِقَولِهِ:

لَمَّا رَأَيْـتُـكَ جَــالِـسَـاً مُـتَـفَـكِّـرَاً   ***   أَيْقَنْـتُ أَنَّـكَ للهُمُومِ قَرِينُ

مَالا يُـقَـدَّرُ لا يَـكُــونُ بِـحِـيـلَةٍ   ***   أَبَدَاً وَمَا هُوَ كَـائِنٌ سَـيَكُونُ

سَيَكُونُ مَـا هُـوَ كَائِـنٌ في وَقْـتِـهِ   ***   وَأَخُو الجَهَالَةِ مُتْعَبٌ مَحْزُونُ

يَجْرِي الحَرِيصُ ولا يَنَالُ بِحِرْصِهِ   ***   شَيْئَاً وَيَحْظَى عَاجِزٌ وَمَـهِيـنُ

فَدَعِ الهُـمُـومَ تَـعَرَّ مـن أَثْـوَابِهَا   ***   إِنْ كَانَ عِنْدَكَ بالقَضَاءِ يَـقِينُ

هَوِّنْ عَلَيكَ وَكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِـقَـاً   ***   فَأَخُو الحَقِيقَةِ شَأْنُهُ التَّهْوِيـنُ

فَلَرُبَّ مَا تَرْجُوهُ لَـيسَ بِـكَائِـنٍ   ***   ولَرُبَّ مَا تَخْشَاهُ سَوفَ يَكُونُ

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الحَمْدُ للهِ الذي أَكْرَمَنَا بالإِيمَانِ، الحَمْدُ للهِ الذي شَرَحَ صُدُورَنَا للإِسْلامِ، فإذا عَظُمَ الخَطْبُ، واشْتَدَّ الكَرْبُ، فلا نَجَاةَ إلا باللهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، إذا تَضَاعَفَ الضُّرُّ، وزَادَ السُّوءُ، فلا كَاشِفَ لَهُ إلا هوَ ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، إذا تَوَالَى الهَمُّ، وتَتَابَعَ الغَمُّ، فلا فَارِجَ لَهُ إلا اللهُ ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبَاً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، كُلَّمَا عَظُمَتِ الخُطُوبُ، أو تَزَايَدَتِ الكُرُوبُ، فلا مَلْجَأَ إلا إلى اللهِ تعالى ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، اللهُ تعالى هوَ المُعَوَّلُ عَلَيهِ في كُلِّ خَطْبٍ، وهوَ المَوثُوقُ بِهِ في كُلِّ كَرْبٍ، فَتَضَرَّعُوا إلى اللهِ تعالى، واسْتَمْسِكُوا بِكِتَابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، واتْرُكُوا المَعَاصِي والمُنْكَرَاتِ، واسْتَجِيبُوا للهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَكُم ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

اللَّهُمَّ فَرِّجْ عَنَّا عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 21/جمادى الثانية/1435هـ، الموافق: 10/نيسان / 2015م

 2015-04-10
 4954
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 160 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 160
12-04-2024 809 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 809
09-04-2024 600 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 600
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 612 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 612
21-03-2024 1083 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1083

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413323697
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :