127- خطبة الجمعة: هل تغتنم هذه الفرصة؟

127- خطبة الجمعة: هل تغتنم هذه الفرصة؟

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

أنت واحد من اثنين:

الإنسان واحد من اثنين لا ثالث لهما:

الصنف الأول: عبد عرف ربه عز وجل ثم عرف نفسه وذاته، فهو عبد مؤمن بعبوديته لله تعالى، موقن بأنه مملوك لله عز وجل خاضع لسلطانه، لكن هذا العبد مشمول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رواه ابن ماجه. ومشمول بقوله عز وجل: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}.

هذا العبد الضعيف أثقلته الذنوب والخطايا والأهواء والشهوات بسبب ضعفه وبكونه غير معصوم، هذا العبد وقع في الذنوب والآثام في ساعة غفلة من الله عز وجل، فإذا ما فكر بالعودة إلى الله تعالى هجمت عليه الخواطر كيف ترجع إلى الله وأنت العبد المذنب الخطاء؟ أو استحيا هذا العبد من ربه كيف يرجع إلى الله تعالى؟ وهو العبد الذي ما قابل الإحسان بالإحسان، بل قابل الإحسان بالإساءة، كيف يقبل على الله تعالى الذي خلقه فسوَّاه فعدله في أي صورة ما شاء ركَّبه؟ هذا الصنف الأول.

الصنف الثاني: عبد ما عرف نفسه وما عرف ربه والعياذ بالله تعالى، ولسان حاله وقاله يقول: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين}. هذا العبد يأكل كما تأكل الأنعام والنار مثوى له والعياذ بالله تعالى.

هذا العبد حجب عن معرفة هويته، ومن ثم حجب عن معرفة ربه عز وجل، فعاش في هذه الحياة الدنيا لا يعرف مولاه ولا يعرف خالقه، ولا يعرف من أين أتى؟ ولا إلى أين المصير؟ ولا عرف الغاية من خلقه؟

هذا العبد حجب عن الله عز وجل والعياذ بالله تعالى بعلمه، أو بماله، أو بشبابه، أو بجماله، أو بقوته، أو بسلطانه، أو بعشيرته، أو بنعمة من النعم التي أسبغها الله عز وجل عليه، انطبق عليه قول الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}.

أقول للصنف الأول:

أيها الإخوة: أخاطب الصنف الأول من هذين الصنفين، أخاطب العبد الذي عرف الله تعالى وعرف نفسه، عرف هويته، وعرف الغاية من خلقه، وعرف بأنه محاسب يوم القيامة، عرف قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُون}. وعرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ فيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) رواه الترمذي.

أقول لنفسي ولهذا الصنف من الناس:

هذه ليلة من الليالي التي ستقبل علينا بعد أيام، ألا وهي ليلة النصف من شعبان، إن كان لنا بقية من عمر، ستقبل علينا ليلة النصف من شعبان التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي ابن ماجه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلا كَذَا؟ أَلا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ).

ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}.

ويقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

ويقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}.

ويقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}.

ويقول تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}.

أقول أيها الإخوة للصنف الأول من العباد: يا من وقع في الذنوب والخطايا، يا من يشكو من ثقل الأوزار، يا من يشكو من الأهواء والشهوات، يا من هَيْمَنَ عليه الضعف فانساق خلف الشهوات، تعال واجعل الدواء على الداء، تعال وعالج نفسك، وذلك بحسن إقبالك على ربك، بكثرة دعائك، بكثرة تضرُّعك، بوقوفك على باب مولاك الأعزِّ الأمجد الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

قف على باب مولاك الذي ما أُغلق، قف على باب مولاك الذي يدعوك إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال تعالى: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}.

يا أيها العبد الضعيف قف على باب مولاك في ليلة النصف، يا صاحب القلب المحزون، يا صاحب القلب المنكسر قف على باب مولاك في كل ليلة، وخاصة في ليلة النصف، فالله تعالى يدعوك: (أَلا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلا كَذَا؟ أَلا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ).

اغتنم هذه الليلة واجعل الدواء على دائك وأنت موقن بالإجابة، اغتنم هذه الليلة بالدعاء، وليكن دعاؤك دعاء العبد المضطر، لأن دعوة المضطر مستجابة، قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون}.

ليست المشكلة في المعصية:

أيها الإخوة: ليست المشكلة في المعصية، المشكلة في الإصرار عليها، المشكلة في تبرير المعصية، المشكلة في الاستكبار على الله تعالى، المشكلة في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ليست المشكلة في المعصية لأن ربنا عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}.

المشكلة ألا ترى المعصية معصية، ألا ترى الإعراض عن الله جريمة كبرى، هذه هي المشكلة.

المشكلة أن تكون محجوباً عن الله عز وجل، المشكلة أن لا تنتهز الفرص، فرص الإقبال على الله تعالى، وليلة النصف من شعبان بل شهر شعبان كله من الفرص التي غفل عنها كثير من الناس، كما جاء في الحديث الشريف عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: (ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) رواه الترمذي.

هذه هي المشكلة، وليست المشكلة أن تكون عاصياً بدون إصرار، جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ) رواه مسلم.

فأقبلوا على الله تعالى بالدعاء والتضرُّع، وحُطُّوا رِحالكم على باب مولاكم، واصدقوا في توبتكم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإن الله يفرح بتوبة عبده، كما جاء في الحديث الشريف: عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) رواه مسلم.

هل اجتماع المسلمين لا يرضي الله عز وجل؟

وهنا أقول أيها الإخوة: لا تلتفتوا إلى بعض الناس الذين يقولون إن إحياء هذه الليلة وصيام يومها من البدع ما جاء فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث صحيح.

نعم أيها الإخوة ما جاء حديث صحيح في هذه الليلة من أجل قيامها ولا صيام نهارها، نعم الحديث ضعيف، ولكن أما يعلم هؤلاء بأن الحديث الضعيف يُعمل به في فضائل الأعمال؟ أما يعلم هؤلاء بأن تسوية الحديث الضعيف بالموضوع جريمة كبرى؟

أقول لهؤلاء الإخوة الكرام الذين يشنون الغارات على المسلمين إذا ما جاءت ليلة الإسراء والمعراج أو ليلة النصف من شعبان أو ليلة المولد أو ما شاكل ذلك من هذه الليالي المباركة، يشنون على المسلمين هجمات التبديع والتضليل وربما التفسيق والتكفير، أقول لهؤلاء:

يا عباد الله اتقوا الله عز وجل في هذه الأمة.

ألا يعجبكم أن تروا هذه الأمة في بيت من بيوت الله بقضِّها وقضيضها تتضرع إلى الله تعالى بالدعاء وتلحُّ في المسألة؟

ألا يعجبكم أن تروا هذه الأمة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة الإسراء والمعراج أو في ليلة المولد تذكر الله تعالى وتدعوا الله عز وجل وتمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشكر الله تعالى على نعمه التي أسبغها الله عليهم؟

ألا يعجبكم أن تروا الأمة واقفة بين يدي الله عز وجل في محراب العبودية لله عز وجل وهي تظهر عجزها وفقرها وذلها لله تعالى؟

إن كان هذا لا يعجبكم فماذا يعجبكم؟

هل اجتماع الأمة في بيوت الله عز وجل لا يرضي الله عز وجل، ولا يرضي النبي صلى الله عليه وسلم؟

هل اجتماع الأمة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة الإسراء والمعراج أو في ليلة المولد مع الاعتقاد بعدم سنية ذلك يضر في دين الأمة؟ ألا يكون هذا اللقاء داخلاً تحت قول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}؟

ماذا يضرُّ اللقاء مع الاعتقاد بعدم وجوبه وفرضيته، بل بعدم سنيَّته، وخاصة في زمن ضعفت فيه الهمم وكثر فيه الإعراض عن الله عز وجل؟ ماذا يضرُّ هذا اللقاء مع الاعتقاد بعدم سنيته ونحن نجدد إيماننا في لقائنا مع بعضنا البعض على ذكر الله تعالى؟

هل هذا من البدع في دين الله عز وجل؟ نعم لو قلنا بأن هذا الاجتماع فرض أو واجب أو سنة بدون دليل فهذا من البدع، لأنا أقحمنا في دين الله ما ليس منه، أما لو اجتمعنا على طاعة الله وعلى ذكر الله مع الاعتقاد بأن هذا الأمر مباح وليس سنة، فما الذي يضر؟

أنا أيها الإخوة في كل أسبوع أقول لكم بعد صلاة الجمعة:

لا تنس حصة السؤال والجواب بعد صلاة السنة البعدية، هل أنا مبتدع في دين الله عز وجل؟ هل اللقاء لمدارسة العلم بدعة؟ وخاصة عندما نسمع قول الله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}. هل ينكر أحد علي؟ فيقول: كيف تقول لا تنس حصة السؤال والجواب والله تعالى يقول: { فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}؟ هل بقاؤنا بعد صلاة الجمعة ساعة من الزمن نتفقه في دين الله عز وجل من البدع؟

أقول لهؤلاء الإخوة الذين يشنون تلك الهجمات في هذه المناسبات على المسلمين: ما أنتم قائلون لله عز وجل؟ نعم ولو قلتم للناس: أيها الإخوة اجتمعوا ولكن لا تعتقدوا فرضية ولا وجوب ولا سنية هذا الأمر، فإن هذا الأمر لا يضركم، ولكن بهذا الشكل العنيف الذي نسمعه بدون قيد ولا شرط أرى فيه خطورة عليكم.

وأقول للصنف الثاني:

أيها الإخوة: أما الصنف الثاني من الناس الذين استكبروا على الله تعالى، الذين لا يرون المعصية معصية، الذين حُجبوا عن مولاهم فما عرفوا الله تعالى وما عرفوا أنفسهم، أقول لهم:

يا من وضعتم هوياتكم تحت أقدامكم، ونسيتم قول الله عز وجل: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. أنتم سكارى تائهين عن جادة الصواب، قفوا مع أنفسكم لحظة واحدة، وأذكِّركم بقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}. فكِّر في نفسك من أنت؟

أنت أوَّلك ضعفُ الطفولة، وآخرك ضعف الشيخوخة، وما بينهما مرحلة القوة، اعلم بأنها عارية مُسْتَرَدَّة، وصدق الله القائل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير}.

بدايتك ضعف وآخرك ضعف ومرحلة القوة لا تدوم لك.

فيا من بدايته ضعف ونهايته ضعف فكِّر من الذي ينقلك من حال إلى حال بدون اختيار منك؟

الذي ينقلك إنما هو مولاك إن شئت وإن أبيت، وهو القائل في كتابه العظيم: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}. فالله ينقلك من طور إلى طور رغماً عن نفسك، فهل يليق بك أن تستكبر على مولاك؟ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير}.

إذا عرفت من أنت فبها ونعمت، وإلا فأقول لك كما قال بعض الصالحين لواحد من المستكبرين: أنت أولك نُطْفَةٌ مَذِرَة، وآخرك جيفة قَذِرة، والآن تحمل العَذِرَة. وصدق الله القائل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق}.

أقول لهؤلاء: إن سمعتم نصحي ورجعتم إلى عقولكم قبل فوات الأوان فستكونون من السعداء إن شاء الله تعالى، وإلا فأنا أطلب منكم شيئاً واحداً، ألا وهو الثبات على ما أنتم عليه من الاستكبار والاستعلاء، اثبتوا على جحودكم وعنادكم إلى ساعة الموت.

اثبت على استكبارك بعلمك بجاهك بسلطانك بمالك حتى إذا جاءك ملك الموت فَرُدَّهُ باستكبارك.

اعتبر أيها المستكبر:

أيها العبد المتكبر اعتبر بغيرك، لأن العاقل من اتَّعظ بغيره، والأحمق الذي لا يعتبر إلا بنفسه، أيها العبد المستكبر أعطاك الله نموذجاً في القرآن العظيم عن بعض المستكبرين فهل أنت معتبر؟

هذا فرعون الذي قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى}. وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. وقال لسيدنا موسى وهارون: {فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى}. وقال آخر المطاف استكباراً وجحوداً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.

هل ثبت على ذلك عندما جاءته سكرات الموت؟ اسمع ما يحدثنا عنه مولانا عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين}.

بل أقول لك أيها المستكبر تدبر جيداً قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون}. وقد نجاه الله ببدنه. والناس اليوم يقصدون زيارته هذا هو الذي قال ما قال. فما رأيك أيها المستكبر؟

هذا الذي استكبر كان به مولانا حليماً لأنه عبد الله إن شاء أو أبى، أرسل الله إليه موسى وهارون عليهما السلام، وقال لهما: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. بأسلوب لطيف لأن مولاك رحيم بك، فلا تكن أحمق، وقال لسيدنا موسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. خيَّره سيدنا موسى بأمر من ربنا عز وجل، ولكن الاستكبار أعمى قلبه والعياذ بالله، فكانت النتيجة التي عرفتَ.

وأخيراً أقول لهذا العبد المستكبر:

أنصحك بأن ترجع إلى مولاك قبل فوات الأوان، وإن أصررت على استكبارك فأنصحك أن تأخذ هذه الآية من كتاب ربك عز وجل: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيد * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد}.

عندما يصبح بصرك حديداً وترى مقعدك من النار فسوف تقول كما قال أمثالك الذين قال فيهم مولانا: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون}.

خاتمة نسأل الله حسنها:

أيها الإخوة لنغتنم الفرص التي منحنا الله إياها، والتي من جملتها ليلة النصف من شعبان، واعلموا بأن أصنافاً ستة لا يُغفر لهم، وهم: المشركون، والمتشاحنون، وقاطعو الرحم، والمستكبرون، والعاقون لوالديهم، والمدمنون على الخمر، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. وأقول هذا القول وكل منا يستغفر الله، فيا فوز المستغفرين.

**     **     **

 

 2009-07-31
 4045
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

26-04-2024 47 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 47
19-04-2024 242 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 242
12-04-2024 938 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 938
09-04-2024 610 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 610
04-04-2024 714 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 714
28-03-2024 650 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 650

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414209224
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :