273ـ خطبة الجمعة: يا حسرةً على العباد يوم القيامة

273ـ خطبة الجمعة: يا حسرةً على العباد يوم القيامة

 

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

لقد أَنعَمَ اللهُ نِعماً سَابِغَةً وآلاءَ بَالِغَةً، وأَعظمُ نِعمةٍ أَسبَغَهَا ربُّنا علينا هيَ نِعمةُ الإسلامِ والإيمانِ، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين}. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون}.

يا عباد الله، الإسلامُ هوَ الدِّينُ القيِّمُ الذي فيهِ صَلاحُ العِبادِ والبِلادِ، فيه المبادِئُ السَّاميةُ، والأخلاقُ العالِيَةُ، والنُّظُمُ العادِلَةُ، إنَّه الدِّينُ الذي نَفخَرُ به، ونَشرُفُ بِالانتِسابِ إليه، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون}.

يا عباد الله، سوفَ نُسأَلُ عنِ النِّعَمِ كُلِّهَا، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم}. وخاصَّةً عن نِعمَةِ الإسلامِ والإيمانِ، هل حافظنا عليها بِالالتِزامِ، أم ضَيَّعنَاهَا بِعَدَمِ الالتِزامِ؟

بِالإسلامِ أصبحتِ الأمَّةُ عزيزةً، وأضحَت مَتبوعةً بعدَ أن كانت تابعةً، وبِفضلِ اللهِ تعالى ومِنَّتِهِ علينا، صارت هذهِ الأمَّةُ خيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. ليسَ بِالعُروبَةِ ولا بِوُجوهِنا صِرنَا خَيرَ الأُمَم، بل بِنِعمَةِ الإسلامِ، والالتزامِ به {تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}. ورضيَ اللهُ تعالى عن سيِّدِنا الفاروقِ عمرَ بنِ الخطَّابِ الذي كانَ يقولُ: (إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَومٍ، فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالإسلامِ، فَمَهمَا نَطلُبُ العِزَّةَ بِغيرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ به، أَذَلَّنَا اللهُ) رواه الحاكم عن طارق بن شهاب رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

يا عباد الله، لن يكونَ عِزُّنا بِعلمانيَّةٍ ولا مَدَنيَّةٍ ولا بِتشريعاتٍ وضعيَّةٍ، لن يكونَ عِزُّنا إلا بالإسلامِ، حيثُ نُحِلُّ حلالَهُ ونُحرِّمُ حرامَهُ، ونَقِفُ عندَ حُدودِ اللهِ تعالى، ونقولُ لأوامِرِ الله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.

فَفي الإسلامِ عِزُّنَا في الدُّنيا والآخرةِ، وهوَ البابُ الوحيدُ لِدُخولِ الجنَّةِ بعدَ بِعثةِ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون}.

فالبابُ الوحيدُ لِدُخولِ الجنَّةِ بعدَ بِعثةِ سيِّدِنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هو بابُ المصطفى عليه الصلاةُ والسلام.

كلُّ أبوابِ الوَرى مَغلُوقَةٌ   ***   غَيرَ بَابِ المُصطَفى مِنهُ الدُّخُولُ

يا عباد الله، البابُ الوحيدُ لِدُخولِ الجنَّةِ هوَ إيمانُنا بِسيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والإيمانُ يعني التَّصديقَ والعملَ والطاعةَ لهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) رواه الإمام البخاري عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَمِعَ بِي مِنْ أُمَّتِي أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِي دَخَلَ النَّارَ). رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ. فَمَصيرُ أهلِ الكتابِ بعد بِعثةِ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى النَّارِ إذا لم يُؤمنوا به، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّة}.

لذلك حَقَدوا علينا وحَسدُونا على هذهِ النِّعمَةِ، وضَمَروا لنا من البغضَاءِ ما لا يعلمهَا إلا اللهُ، وصَدَقَ اللهُ القائلُ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. فلا تُعلِّقوا آمالكم يا عبادَ اللهِ لا بِيَهودٍ ولا بِنَصارى ولا بِمَلاحِدةٍ ، بل عَلِّقُوهَا باللهِ تعالى بعدَ الالتزامِ بِالإسلامِ.

يا حسرةً على العِبادِ إذا وقفوا بين يديِ اللهِ تعالى لِلحسابِ:

يا عباد الله، لقد أَكرَمَنا اللهُ تعالى بِنِعمةِ الإسلامِ، وشَرَّفَنَا بِنِعمةِ التَّكليفِ، فَبِنِعمةِ التَّكليفِ أصبحنا أَعِزَّةً، لأنَّ تَكليفَ اللهِ تعالى لنا هوَ شَرَفٌ وعِزٌّ لنا، وخيرُهُ راجعٌ علينا وليسَ راجعاً للهِ تعالى، قال تعالى في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.

يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً.

يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً). ثمَّ يقول تعالى: (إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ) رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ولكنَّ كثيراً من الناسِ ضَيَّعوا هذا التَّكليفَ، ومن ضيَّعَهُ سوفَ يَتَحَسَّرُ إذا ما وَقَفَ بينَ يَدَيِ اللهِ تعالى لِلعرضِ والحسابِ يومَ القيامةِ، فيا من زَهِدَ في الإسلامِ وأعرضَ عنه، أنتَ راجعٌ إلى ربِّكَ رغمَ أنفكَ، سواءٌ كنتَ حاكماً أو محكوماً، قويَّاً أو ضعيفاً، غنيَّاً أو فقيراً، راجعٌ إلى ربِّكَ وواقِفٌ بين يديهِ يومَ القيامةِ.

يا عبادَ الله، أتدرونَ ما هوَ يومُ القِيامَةِ؟ فَفِي يومِ القيامةِ:

أولاً: المُلكُ فيه لله تعالى الواحدِ القهَّارِ:

يا عباد الله، الملكُ للهِ تعالى في الحياةِ الدنيا والآخرة، ولكن شاءَ ربُّنا عزَّ وجل أن يعطيَ بعضَ خلقِهِ المُلكَ في الحياةِ الدنيا، قال تعالى: {تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاء}. فظنَّ هذا المَلِكُ أنَّه مستَقِلٌّ، وأنَّهُ ـ والعياذُ باللهِ تعالى ـ نِدٌّ للهِ تعالى، هذا العَبدُ الظانُّ هذا الظنَّ غبيٌّ، وما عِندَهُ ذرَّةُ عقلٍ عندما يُفكِّرُ هذا التَّفكيرَ، ما آتاهُ اللهُ المُلكَ إلا اختباراً وابتلاءً، هل يطغى بِمُلكِهِ أم يَقِفُ عندَ حدودِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟

فَفِي يومِ القيامَةِ تَتَجلَّى حَقيقةُ المُلكِ بِأنَّهُ للهِ تعالى. يقول الله تعالى: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار * اليَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَاب}. أجيبوا يا حُكَّامَ العربِ، ويا حُكَّامَ الدُّنيا لمنِ المُلكُ اليومَ؟

جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن عَبْد اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟).

هل سمعتم هذا يا مُلوكَ الأرضِ؟ هل سمعتم هذا يا حُكَّامَ الناسِ؟ هل سمعتم هذا يا جَبابِرَةُ؟ هل سمعتم هذا يا مُتكبِّرونَ؟ فالمَلِكُ والمالِكُ هوَ اللهُ تعالى، والجبَّارُ هوَ اللهُ تعالى، والمتَكَبِّرُ هوَ اللهُ تعالى، والناسُ همُ الفقراءُ إلى اللهِ تعالى، حُكَّاماً ومَحكُومين، يَقِفُونَ بينَ يَدَيِ اللهِ تعالى لا تَخفَى منهم خافيةٌ، وهناكَ تَنكَشِفُ الحقائقُ، وتُبلى السَّرائرُ، ويَشيبُ الوِلدانُ، وتَذهلُ المرضعةُ عمَّا أرضعت، كما قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيد}.

ثانياً: لا ينفعُ فيه النَّسبُ:

يا عباد الله، الناسُ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا يفتَخِرونَ بِأنسابِهِم المادِّيةِ، ولا يفتَخِرونَ بِنَسَبِ التَّقوى ـ إلا من رحِمَ اللهُ تعالى ـ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.

فَفِي يومِ القيامةِ لا يَنفَعُ نَسَبٌ، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُون}. فكلُّ نَسَبٍ موضوعٌ إلا نَسَبَ التَّقوى، أخرج الطبراني في الكبير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، أَمَرَ اللهُ مُنَادِياً يُنَادِي: أَلا إِنِّي جَعَلْتُ نَسَباً، وَجَعَلْتُمْ نَسَباً، فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلا أَنْ تَقُولُوا: فُلانُ بنُ فُلانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلانِ بنِ فُلانٍ، فَأَنَا اليَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي، وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ، أَيْنَ المُتَّقُونَ؟). اللهمَّ اجعلنا منَ المُتَّقينَ.

فالنَّسبُ هوَ نَسَبُ التَّقوى والاتِّباعِ والاقتِداءِ، وهذا ما أكَّدَهُ سيِّدُنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بقوله: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ـ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ـ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) متَّفقٌ عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وأخرج الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).

ثالثاً: تنطِقُ فيه الجوارِحُ:

يا عباد الله، إنَّ شُهودَ الدُّنيا في قَضِيَّةٍ (ما) قد يَكذِبونَ وقد يَكونونَ شُهودَ زُورٍ، وقد يُبالغونَ في الحقيقةِ، وقد يَمتنِعونَ عن الإدلاءِ بِالشَّهادةِ خوفاً من مُهدِّدٍ، أو طَمَعاً في مُرَغِّبٍ، وقد تَكونُ شَهادَتُهُم غَامِضَةً، لكنَّ شُهودَ يومِ القيامةِ صِنفٌ آخرُ من المخلوقاتِ، يَختلِفونَ تماماً عن شُهودِ الدُّنيا، لا يَعرِفونَ الكذِبَ، ولا يَقبَلونَ الرِّشوةَ، ولا يَزيدونَ ولا يُنقِصونَ، شَهَادَتُهُم واضِحَةٌ، عِبَارتُهُم مَفهومَةٌ، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون}.

يا عبادَ الله، في يومِ القيامَةِ يَشهَدُ السَّمعُ والبَصَرُ والجِلدُ والرِجْلُ واليَدُ وجَمِيعُ الجَوارِحِ، فَيَا قاتِلَ الأبرياءِ، ويا سافِكَ الدِّماءِ، ويا مُرَوِّعَ النَّاسِ، ويا مُيَتِّمَ الأطفالِ، ويا مُرَمِّلَ النِّساءِ، ويا هاتِكَ الأعراضِ، إذا اختفيتَ بعدَ ارتكابِ الجريمةِ ولم تُعرَف في الدنيا، فاعلم بأنَّك ستُعرَفُ في أرضِ المَحشر عندما تأتي جهنَّمَ وبِئسَ المَصِيرُ، ولا تَخفى مِنكَ خافيةٌ، وتَشهدُ عليكَ جوارِحُكَ.

خاتمة نسألُ الله تعالى حُسنَهَا:

يا عباد الله، يا حسرةً على العِبادِ إذا وَقَفُوا بينَ يَدَيِ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرلاً، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً) ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.

فَيَا أيُّها الحاكمُ، ويا أيُّها القاتِلُ، ويا سافِكَ الدِّماءِ، ويا هاتِكَ الأعراضِ، ويا مُهَدِّمَ البُيوتِ، ويا مُرَوِّعَ النَّاسِ، واللهِ سَتَقِفُ بينَ يَدَي مولاكَ حافياً عارياً فقيراً ذليلاً حقيراً، وسَيَسأَلُكَ مولاكَ: لمَ قتلتَ؟ لمَ سَفَكتَ؟ لمَ هَتَكتَ الأعراضَ؟ لمَ رَوَّعتَ؟ لمَ يَتَّمتَ الأطفالَ؟ لمَ رمَّلتَ النِّساءَ؟ فما أنتَ قائِلٌ لمولاكَ؟

يا حسرةً على العِبادِ إذا وَقَفُوا بينَ يَدَيِ اللهِ تعالى لا يَتَكَلَّمونَ، كما قال تعالى: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}.

يا حسرةً على العِبادِ إذا وَقَفُوا بينَ يَدَيِ اللهِ تعالى، وسَمِعوا قولَ اللهِ تعالى: {وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُون * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}.

فَيَا مَن عَبَدَ الشَّيطانَ ـ يعني أَطَاعَهُ وامتَثَلَ أمرَهُ ـ سواءٌ كان شَيطاناً جِنِّيَّاً أم إنسِيَّاً، ما أنت قائلٌ لِربِّكَ، وأنت المجرمُ القاتِلُ لِلأبرياءِ، وأنت المجرمُ المرَوِّعُ لِلناسِ، وأنت المجرمُ الهاتِكُ لِلأعراضِ، وأنت المجرمُ المُيَتِّمُ لِلأطفالِ والمُرَمِّلُ لِلنِّساءِ؟

ما أنت قائلٌ لِربِّكَ عندما تسمعُ قولَهُ: {لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار}؟.

ما أنت قائلٌ لِربِّكَ عندما تسمعُ قولَهُ: (أَيْنَ المُتَّقُونَ؟). فهل تقولُ ها أنا؟

ما أنت قائلٌ لِربِّكَ عندما يَشهَدُ عليكَ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ وكلُّ جوارِحِكَ؟ هيِّئِ الجوابَ لمولانا عزَّ وجلَّ.

يا عبدَ اللهِ اسمع هذا الحديث الشريفَ: (عِشْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحبِبْ مَن شِئتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُه، واعمَل مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مُجْزَيٌّ بِهِ) رواه الحاكم عن سهل بن سعدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أسألُ اللهَ تعالى أن يُعِزَّنا بالإسلامِ، وأن يَجعلَنا وقَّافينَ عندَ حدودِ اللهِ في المَنشَطِ والمَكرَهِ، في القوَّةِ والضَّعفِ، في الغِنى والفَقرِ، حتى نلقى اللهَ القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون}. فلا تموتوا إلا على الإِسلامِ، لأنَّهُ مِن بابِ الإسلامِ تدخلونَ جَنَّةَ اللهِ، وإلا فلن يدخُلَها وربِّ الكعبَةِ مَن رَغِبَ عنِ الإسلامِ.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20 / جمادى الثانية/1433هـ، الموافق: 11/ أيار/ 2012م

 2012-05-11
 69532
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 18 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 18
12-04-2024 637 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 637
09-04-2024 549 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 549
04-04-2024 678 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 678
28-03-2024 568 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 568
21-03-2024 1000 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1000

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412732118
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :