60ـ مع الحبيب المصطفى: إذا غضب أعرض وأشاح

60ـ مع الحبيب المصطفى: إذا غضب أعرض وأشاح

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

60ـ إذا غضب أعرض وأشاح

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: خُلُقُ الحَياءِ من أفضَلِ الأخلاقِ وأجَلِّها، وأعظَمِها قَدْراً ونَفْعاً، بل هوَ خاصَّةُ الإنسانِيَّةِ، فمن لا حَياءَ فيهِ ليسَ معَهُ من الإنسانِيَّةِ إلا اللَّحمُ والدَّمُ، كما أنَّهُ ليسَ معَهُ من الخَيرِ شيءٌ.

لولا خُلُقُ الحَياءِ لم يُقْرَ الضَّيفُ، ولم يُوفَ بالوَعدِ، ولم تُؤَدَّ أمانَةٌ، ولم تُقضَ لأحَدٍ حاجَةٌ، ولم يُرعَ لِـمَخلوقٍ حَقَّاً، ولم يُصَلْ له رِحِمٌ، ولا بُرَّ له والدٌ، فالحَياءُ أصلٌ لِكُلِّ خَيرٍ.

ربُّكُم حَيِيٌّ كريمٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: روى الترمذي عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً خَائِبَتَيْنِ».

فمن صِفَاتِ المَولى: الكَريمُ الحَيِيُِ، وهذهِ الصِّفَةُ لا تُدرِكُها العُقولُ ولا تُكَيِّفُها، فهوَ حَياءُ كَرَمٍ وبِرٍّ وجُودٍ، فإنَّهُ كريمٌ يَستَحيي من عَبدِهِ إذا رَفَعَ إليهِ يَدَيهِ أن يَرُدَّهُما صِفراً، ويَستَحِيي أن يُعَذِّبَ ذَا شَيبَةٍ شَابَت في الإِسلامِ.

أشَدُّ حَياءً من العَذراءِ:

أيُّها الإخوة الكرام: ربُّنا حَيِيٌّ، وسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيِيٌّ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِن الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. يعني: أكثَرُ حَياءً من الفتاةِ التي تُستَرُ في خِدرِها.

خُلُقُ الإسلامِ الحَياءُ:

أيُّها الإخوة الكرام: إذا كانَ ربُّنا عزَّ وجلَّ حَيِيَّاً، وسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيِيَّاً، فمن الطَّبيعِيِّ أن يَكونَ خُلُقُ الإسلامِ الحَياءُ، روى ابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقاً، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ».

اِستَحيوا من الله تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: رَبٌّ حَيِيٌّ، ورَسولٌ حَيِيٌّ، ودِينٌ كُلُّهُ حَياءٌ، ويأتي بعدَ ذلكَ التَّوجيهُ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الأمَّةِ أن تَتَحَلَّى بِخُلُقِ الحَياءِ.

روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنْ الله عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ»

قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا نَسْتَحِي وَالْحَمْدُ لله.

قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِن الله حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُر الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَد اسْتَحْيَا مِن الله عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ».

أيُّها الإخوة الكرام: هل يَسألُ أحَدُنا نَفسَهُ: أينَ أنا من خُلُقِ الحَياءِ الذي أشارَ إليهِ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ الشَّريفِ؟

وإنَّهُ لمن العَجيبِ أن تَرى بَعضَ المؤمنينَ ما تَخَلَّقوا بِخُلُقِ الحَياءِ، معَ عِلمِهِم بهذهِ الحَقائِقِ، أنَّ ربَّنا حَيِيٌّ، ورسولَنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيِيٌّ، وإسلامَنا خُلُقُهُ الحَياءُ، وأمَرَنا بالحَياءِ.

حَياءُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: إضافَةً لما سَبَقَ: فقد أعظَمَ اللهُ تعالى علينا المِنَّةَ بإرسالِ الحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والذي هوَ أسوَةٌ وقُدوَةٌ لمن كانَ يَرجو اللهَ واليومَ الآخِرَ.

فاسمَع أيُّها المؤمنُ شيئاً من حَياءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام أحمد عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ صُفْرَةً فَكَرِهَهَا، قَالَ: «لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَغْسِلَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ».

قَالَ: وَكَانَ لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَداً فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ.

وروى أبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَغَهُ عَن الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ؟

وَلَكِنْ يَقُولُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا».

وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ إِلَى فَرْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَطُّ، أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَطُّ.

وما ذاكَ إلا لِشِدَّةِ حَيائِهِ، وكَمالِ وَقارِهِ، وتَسَتُّرِهِ كُلَّ التَّسَتُّرِ.

روى أبو داود عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يُوَاجِهُ رَجُلاً فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ.

وروى البيهقي عن الحسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: سَألتُ خالي هِندَ بن أبي هَالَةَ التَّميمِيَّ، وكانَ وَصَّافاً، عن حِليَةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأنا أشتَهي أن يَصِفَ لي منها شَيئاً أتَعَلَّقُ به، فقال ـ مِمَّا قال ـ: كانَ إذا غَضِبَ أعرَضَ وأشاحَ، وإذا فَرِحَ غَضَّ طَرفَهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعيدُ منَّا من يَستَحيي من الله تعالى حَقَّ الحَياءِ، وكيفَ لا يَستَحيي العَبدُ من ربِّهِ عزَّ وجلَّ الذي يَستَحيِي من عَبدِهِ الدَّاعي؟

روى أبو نعيم في حلية الأولياء عن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والذي نَفسي بِيَدِهِ، إنَّ العَبدَ لَيدعُو الله وهوَ عَلَيهِ غَضبان فَيُعرِضُ عنهُ، ثمَّ يَدعُوهُ فَيُعرِضُ عنهُ.

فيقولُ اللهُ لملائِكَتِهِ: أبَى عَبدِي أن يَدعوَ غَيري، فَقَد استَحيَيتُ منهُ، يَدعُوني وأعرِضُ عنهُ، أُشهِدُكُم أنِّي قَد استَجَبتُ له».

أيُّها الإخوة الكرام: لِنُكثِرْ من الدُّعاءِ لله تعالى رَغمَ تَقصيرِنا، ولنُكثِرْ من هذا الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ ارزُقنا حَقَّ الحَياءِ منكَ يا أرحَمَ الرَّاحمينَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 23 /رمضان/1434هـ، الموافق: 31 /تموز / 2013م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الحبيب المصطفى   

26-06-2019 2342 مشاهدة
316ـ العناية الربانية بالحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد

 26-06-2019
 
 2342
20-06-2019 1388 مشاهدة
315ـ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 20-06-2019
 
 1388
28-04-2019 1171 مشاهدة
315ـ«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1171
28-04-2019 1183 مشاهدة
314ـ في محط العناية

لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1183
21-03-2019 1801 مشاهدة
313- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾

فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد

 21-03-2019
 
 1801
13-03-2019 1675 مشاهدة
312- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ»

وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد

 13-03-2019
 
 1675

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413927400
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :