22ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: هجرة سيدنا علي والزهراء رَضِيَ اللهُ عَنهُما

22ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: هجرة سيدنا علي والزهراء رَضِيَ اللهُ عَنهُما

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

22ـ هجرة سيدنا علي والزهراء رَضِيَ اللهُ عَنهُما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد ضُيِّقَ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، والتَّضَيُّقُ عَلَيهِ يَعْنِي التَّضَيُّقَ على آلِ البَيْتِ، بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

والهِجْرَةُ من الوَطَنِ لَيْسَ أَمْرَاً سَهْلاً، لأَنَّ الهِجْرَةَ تَعْنِي إِهْدَارَ المَصَالِحِ، والتَّضْحِيَةَ بالأَمْوَالِ، والنَّجَاةَ بالنَّفْسِ، مَعَ شُعُورِ المُهَاجِرِ بِأَنَّهُ مُسْتَبَاحُ المَالِ ومَنْهُوبٌ، ولا يَدْرِي مَصِيرَهُ من خِلالِ هِجْرَتِهِ.

لقد وَقَعَ آلُ البَيْتِ الأَطْهَارُ، مَعَ الصَّحَابَةِ في ضِيقٍ شَدِيدٍ من شِدَّةِ عَذَابِ قُرَيْشٍ للمُسْلِمِينَ، روى الإمام البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟

قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، واللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ و الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا اشْتَدَّ الأَمْرُ على المُسْلِمِينَ، جَاءَ الإِذْنُ من اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بالهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وهَاجَرَ الحَبِيبُ الأَعْظَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَرَكَ خَلْفَهُ زَوْجَتَهُ السَّيِّدَةَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، وزَيْنَبَ ابْنَتَهُ التي مَا زَالَتْ في بَيْتِهَا مَعَ زَوْجَهَا أَبِي العَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، إذْ لَمْ يَكُنِ الإِسْلامُ قَد فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا تَرَكَ ابْنَتَيْهِ أُمَّ كُلْثُومٍ وفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهما، أَمَّا السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ فقد هَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

فِدَاءُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا هَاجَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، نَظَرَ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ نَظْرَةَ الحَزِينِ على فِرَاقِهَا، وهوَ يَقُولُ: «واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ  رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: أَرَادَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنْ يُعَلِّمَ الأُمَّةَ كَيفَ يَكُونُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، وكَيفَ يَكُونُ الدَّاعِي إلى اللهِ تعالى، فَأَبْقَى سَيِّدَنَا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَكَانَهُ لِيَرُدَّ الأَمَانَاتِ إلى أَصْحَابِهَا، ومن يَجْرُؤُ على البَقَاءِ في فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ والأَعْدَاءُ قَد أَحَاطُوا بالبَيْتِ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ؟

مَن يَفْعَلُ هذا، وَيَسْتَطِيعُ البَقَاءَ في هذا البَيْتِ وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَعْدَاءُ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في مَضْجَعِهِ؟ إِنَّهُ لا يَفْعَلُ ذلكَ إلا أَبْطَالُ الرِّجَالِ وَشُجْعَانُهُم بِفَضْلِ اللهِ تعالى، وَقَد أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَيَّامَاً حَتَّى يُؤَدِّي أَمَانَةَ الوَدَائِعِ والوَصَايَا التي كَانَتْ عِنْدَهُ إلى أَصْحَابِهَا من أَعْدَائِهِ كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، وهذا من أَعْظَمِ العَدْلِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَقَد جَاءَ في كِتَابِ الرَّوضِ الأُنفِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هذا الخُضَرِيِّ، فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنهُم، وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ فِي بُردِهِ، ذَلِكَ إذَا نَامَ».

أيُّها الإخوة الكرام: رَقَدَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ على فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُوَارِي عَنهُ، وَبَاتَتْ قُرَيْشٌ تَخْتَلِفُ، وَتَأْتَمِرُ، أَيُّهُم يَهْجُمُ على صَاحِبِ الفِرَاشِ فَيُوثِقَهُ، حَتَّى أَصْبَحُوا فإذا هُمْ بِعَلِيٍّ، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لا عِلْمَ لي، فَعَلِمُوا أَنَّهُ قَد فَرَّ؛ وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: إِنَّ عَلِيَّاً قَد شَرَى نَفْسَهُ تِلكَ اللَّيْلَةَ حِينَ لَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثمَّ نَامَ مَكَانَهُ، وفي عَلِيٍّ وَإِخْوَانِهِ من الصَّحَابَةِ المُجَاهِدِينَ الذينَ يَبْتَغُونَ رِضْوَانَ اللهِ والدَّارَ الآخِرَةَ نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ اللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

تَنَاقُضٌ عَجِيبٌ من المُشْرِكِينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: في إِيدَاعِ المُشْرِكِينَ وَدَائِعَهُم عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَعَ مُحَارَبَتِهِم لَهُ، وَتَصْمِيمِهِم على قَتْلِهِ، دَلِيلٌ بَاهِرٌ على تَنَاقُضِهِمُ العَجِيبِ الذي كَانُوا وَاقِعِينَ فِيهِ، فَفِي الوَقْتِ الذي كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَاحِرٌ، أو مَجْنُونٌ، أو كَذَّابٌ، لَمْ يَكُونُوا يَجِدُونَ فِيمَن حَوْلَهُم مَن هُوَ خَيْرٌ مِنهُ أَمَانَةً وَصِدْقَاً، فَكَانُوا لا يَضَعُونَ حَوَائِجَهُم، ولا أَمْوَالَهُمُ التي يَخَافُونَ عَلَيهَا إلا عِنْدَهُ، وهذا يَدُلُّ على أَنَّ كُفْرَانَهُم لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ الشَّكِّ لَدَيْهِم في صِدْقِهِ، وَإِنَّما بِسَبَبِ تَكَبُّرِهِم واسْتِعْلَائِهِم على الحَقِّ الذي جَاءَ بِهِ، وَخَوْفَاً على زَعَامَتِهِم وَطُغْيَانِهِم، وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾.

لا تَخُنْ مَن خَانَكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنْ لا نَخُونَ مَن خَانَنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رواه الترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ولَقَد جَسَّدَ ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَمَلِيَّاً في أَمْرِهِ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِتَأْدِيَةِ هذهِ الأَمَانَاتِ لِأَصْحَابِهَا في مَكَّةَ، على الرَّغْمِ من هذهِ الظُّرُوفِ الشَّدِيدَةِ التي كَانَ من المَفْرُوضِ أَنْ يَكْتَنِفَهَا الاضْطِرَابُ، بِحَيْثُ لا يَتَّجِهُ التَّفْكِيرُ إلا إلى إِنْجَاحِ خُطَّةِ هِجْرَتِهِ فَقَط، على الرَّغْمِ من ذلكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا كَانَ لِيَنْسَى أو يَنْشَغِلَ عَن رَدِّ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا، حَتَّى وَلَو كَانَ في أَصْعَبِ الظُّرُوفِ التي تُنْسِي الإِنْسَانَ نَفْسَهُ فَضْلَاً عَن غَيْرِهِ، فَقَد أَبَى أَنْ يَخُونَ مَن ائْتَمَنَهُ وَلَو كَانَ عَدُوَّاً يُحَرِّضُ عَلَيهِ، وَيُؤْذِيهِ؛ لأَنَّ خِيَانَةَ الأَمَانَةِ من صِفَاتِ المُنَافِقِينَ، وَيَتَنَزَّهُ عَنْهَا المُؤْمِنُونَ.

هِجْرَةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا أَصْبَحَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَامَ من فِرَاشِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَعَرَفَهُ القَوْمُ، وتَأَكَّدُوا من نَجَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

فَقَالُوا لِعَلِيٍّ: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟

قَالَ: لا أَدْرِي، أَوَ رَقِيبَاً كُنْتُ عَلَيهِ؟ أَمَرْتُمُوهُ بالخُرُوجِ فَخَرَجَ.

وَضَاقَ القَوْمُ بِتِلكَ الإِجَابَةِ الجَرِيئَةِ وَغَاظَهُم خُرُوجُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من بَيْنِ أَظْهُرِهِم، وَقَد عَمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَرَوْهُ، فَانْتَهَرُوا عَلِيَّاً وَضَرَبُوهُ، وَأَخَذُوهُ إلى المَسْجِدِ فَحَبَسُوهُ هُنَاكَ سَاعَةً، ثمَّ تَرَكُوهُ، وَتَحَمَّلَ عَليٌّ مَا نَزَلَ بِهِ في سَبِيلِ اللهِ، وَكَانَ فَرَحُهُ بِنَجَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَعْظَمَ عِنْدَهُ من كُلِّ أَذَىً نَزَلَ بِهِ، وَلَمْ يَضْعُفْ وَلَمْ يُخْبِرْ عَن مَكَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَانْطَلَقَ عَلِيٌّ في مَكَّةَ يَجُوبُ شَوَارِعَهَا بَاحِثَاً عن أَصْحَابِ الوَدَائِعِ التي خَلَّفَهُ رَسُولُ اللهِ من أَجْلِهَا، وَرَدَّهَا إلى أَصْحَابِهَا، وَظَلَّ يَرُدُّ هذهِ الأَمَانَاتِ حَتَّى بَرِئَتْ مِنهَا ذِمَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَهُنَاكَ تَأَهَّبَ للخُرُوجِ لِيَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ قَضَاهُنَّ في مَكَّةَ.

وَكَانَ عَلِيٌّ في أَثْنَاءِ هِجْرَتِهِ يَكْمُنُ بالنَّهَارِ، فإذا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيْلُ سَارَ حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ، وَقَد تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، وَهَكَذَا يَكُونُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَد لَاقَى في هِجْرَتِهِ من الشِّدَّةِ مَا لَاقَى، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ رَاحِلَةٌ يَمْتَطِيهَا، وَلَمْ يَسْتَطِعِ السَّيْرَ في النَّهَارِ لِشِدَّةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وفي مَشْيِ اللَّيْلِ مَا فِيهِ من الظُّلْمَةِ المُفْجِعَةِ والوَحْدَةِ المُفْزِعَةِ، وَلَو أَضَفْنَا إلى ذَلكَ أَنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَد قَطَعَ الطَّرِيقَ على قَدَمَيْهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ رَفِيقٌ يُؤْنِسُهُ، لَعَلِمْنَا مِقْدَارَ مَا تَحَمَّلَهُ من قَسْوَةِ الطَّرِيقَ وَوَعَثَاءِ السَّفَرِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَأَنَّهُ في نِهَايَةِ المَطَافِ سَيَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَيَسْتَمْتِعُ بِجِوَارِهِ آمِنَاً مُطْمَئِنَّاً في المَدِينَةِ، وَلَمْ يَكَدْ عَلِيٌّ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَصِلُ إلى المَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ في بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ على كُلْثُومِ بن الهدْمِ، حَيْثُ كَانَ يَنْزِلُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَهَكَذَا كَانَتْ هِجْرَةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تَضْحِيَةً وَفِدَاءً وَتَحَمُّلَاً وَشَجَاعَةً وَإِقْدَامَاً.

هِجْرَةُ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وأُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد مَضَتْ أَيَّامٌ شَدِيدَةٌ وقَاسِيَةٌ على السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وأُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، مَضَتِ اللَّيَالِي وهُنَّ مُثْقَلاتٌ بالسَّهَرِ والشَّجَنِ، مَضَتِ الأَيَّامُ واللَّيَالِي وهيَ تَسِيرُ مُتَبَاطِئَةً مَشْحُونَةً بالقَلَقِ واللَّهْفَةِ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، حَتَّى جَاءَتِ البُشْرَى، فقد جَاءَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ وأَبُو رَافِعٍ ومَعَهُمَا رَاحِلَتَانِ وخَمسُمَائَة دِرْهَمٍ كَيْ يُحْضِرُوا سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنها، وأُمَّ كُلْثُومٍ وفَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ من بَيْتِ النُّبُوَّةِ، ومن آلِ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ وأُمَّهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: أَمْضَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ وأُمُّ كُلْثُومٍ يَوْمَهُمَا الأَخِيرُ بِمَكَّةَ مَعَ أُخْتِهِمَا زَيْنَبَ زَوْجِ أَبِي العَاصِ، ثمَّ أَغْلَقْنَ الدَّارَ التي شَهِدَتْ مَاضِيهِنَّ، وسَعَيْنَ على الحَجُونِ فَرَوَيْنَ قَبْرَ الأُمِّ الطَّاهِرَةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها بِدُمُوعِهِنَّ يُوَدِّعْنَ أُمَّهُنَّ الرَّاقِدَةَ تَحْتَ التُّرَابِ، وأُغْلِقَتْ دَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، كَمَا أُغْلِقَتْ دُورُ المُسْلِمِينَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، فَلَمْ يَعُدْ فِيهَا سَاكِنٌ ولا أَنِيسٌ.

أيُّها الإخوة الكرام: مَضَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ وأُمُّ كُلْثُومٍ إلى حَيْثُ كَانَ زَيْدٌ يَنْتَظِرُهُمَا مُتَهَيِّئَاً للرَّحِيلِ، ولَكِنْ لَمْ تَمْضِ رِحْلَتُهُمَا بِسَلامٍ، فَمَا كَادَتَا تُوَدِّعَانِ أُمَّ القُرَى ويَنْفَصِلُ بِهِمَا الرَّكْبُ مُسْتَقْبِلاً طَرِيقَ الحَدِيثَةِ، حَتَّى طَارَدَهُمَا اللِّئَامُ من مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وبَاءَ الحُوَيْرِثُ بْنُ نَقِيذٍ بِإِثْمِ اللَّحَاقِ بِهِمَا حَتَّى نَخَسَ بَعِيرَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا إلى الأَرْضِ، وكَانَ هذا الخَبِيثُ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِمَكَّةَ.

فَسَارَتَا رَضِيَ اللهُ عَنهُما بَقِيَّةَ الطَّرِيقِ مُتْعَبَتَيْنِ من أَثَرِ وُقُوعِهِمَا على أَدِيمِ الصَّحْرَاءِ، إلى أَنْ بَلَغَتَا المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ، ومَا تَكَادُ سَاقَاهُمَا تَنْهَضَانِ بِهِمَا، ولَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مَن لَمْ يَلْعَنِ الحُوَيْرِثَ الخَبِيثَ.

وسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَمْ يَنْسَ هذهِ الفِعْلَةَ الأَثِيمَةَ، فَفِي العَامِ الثَّامِنِ للهِجْرَةِ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتْلِ الحُوَيْرِثِ ولَو كَانَ مُتَمَسِّكَاً بِسِتَارِ الكَعْبَةِ، وكَانَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَحَقَّ مَن يَقْتُلُ هذا الخَبِيثَ، وقَد فَعَلَ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: طُوبَى لِكُلِّ مَن سَجَّلَ ذِكْرَاً حَسَنَاً في حَيَاتِهِ، فَمَن سَجَّلَ ذِكْرَاً حَسَنَاً فَخَيْرَاً يَلْقَى، ومَن سَجَّلَ ذِكْرَاً سَيِّئَاً فَشَرَّاً يَلْقَى، والعَاقِلُ مَن سَمِعَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الخميس: 10/شعبان /1435هـ، الموافق: 28/أيار/ 2015م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم

13-03-2020 1395 مشاهدة
170ـ موقف الفاروق رضي الله عنه من شارب الخمر

نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد

 13-03-2020
 
 1395
13-02-2020 1952 مشاهدة
169ـ هكذا كان أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد

 13-02-2020
 
 1952
23-01-2020 2587 مشاهدة
168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد

 23-01-2020
 
 2587
16-01-2020 990 مشاهدة
167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد

 16-01-2020
 
 990
09-01-2020 1327 مشاهدة
166ـ حب سيدنا الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد

 09-01-2020
 
 1327
03-01-2020 1023 مشاهدة
165ـ صاحب رسول الله منذ أن بعث

زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد

 03-01-2020
 
 1023

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412908338
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :