13ـ من وصايا الصالحين: ما أجمله من أمير! وما أجملها من وصية!

13ـ من وصايا الصالحين: ما أجمله من أمير! وما أجملها من وصية!

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:

فقد جاء في كتاب صفة الصفوة وفي تاريخ دمشق لابن عساكر: عن سهل بن يحيى بن محمد المروزي قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: لما دَفَنَ عمرُ بن عبد العزيز سليمانَ بن عبد الملك، وخرج من قبره، سمع للأرض هدَّةً أو رجَّة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قُرِّبَتْ إليك لتركبها، فقال: ما لي ولها؟ نَحُّوها عني، قّرَّبوا إليَّ بغلتي.

فقُرِّبَت إليه بغلتُه فركبها، فجاءه صاحب الشُّرَط يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.

فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال:

يا أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورةٍ من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم.

فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فَلِ أمرَنا باليمن والبركة.

فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعاً، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خَلَفٌ من كلِّ شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خَلَف، فاعملوا لأخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعدادَ قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه ـ فيما بينه وبين آدم عليه السلام ـ أباً حياً لمُعَرِّق في الموت [يعني أنه له عرقاً في الموت، أي أنه أصيل فيه]، وإن هذه الأمة لا تختلف في ربها عزَّ وجل ولا في نبيها ولا في كتابها، إنما اختلفوا في الدنيار والدرهم، وإني والله لا عطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً.

ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس من أطاع الله فقد وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

ثم نزل، فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تُبسَط للخلفاء فحُمِلت، وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين.

ثم ذهب يتبوّأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟

قال: أي بني، أقيل [يعني: أنام في القيلولة].

قال: تقيل ولا ترد المظالم؟

قال: أي بني، قد سهرتُ البارحة في أمر عمِّك سليمان، فإذا صليت الظهر رددتُ المظالم.

قال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر؟

قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فالتزمه وقبَّل بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.

فخرج ولم يقِلْ، وأمر مناديه أن ينادي: أَلاَ من كانت له مظلمة فليرفعها. فقام رجل إليه ذِمِّي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتابَ الله.

قال: وما ذاك؟

قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، ـ والعباس جالس ـ.

فقال له: يا عباس، ما تقول؟

قال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سِجِلاً.

فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟

قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتابَ الله عز وجل.

فقال عمر: كتاب الله أحقُّ أن يُتَّبَع من كتاب الوليد بن عبد الملك، قم فاردد عليه يا عباس ضيعته، فردَّ عليه، فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يده، وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمةً مظلمةً.

فبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعِبْتَ عليهم، وسِرْتَ بغير سيرتهم، بُغضاً لهم، وشنآناً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل، إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها في بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تُتْرَك على هذا، اللهمَّ فسَلْ سليمان بن عبد الملك عمَّا صنع بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابَه كَتَبَ إليه:

 ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أما بعد:

فإنه بلغني كتابك، وسأجيبك بنحوٍ منه، أمَّا أوَّل شأنك ابن الوليد كما زعم، فأمك بنانة أمة للسكون، كانت تطوف في سوق حمص، وتدخل وتدور في حوانيتها، ثم الله أعلم بها، اشتراها ذبيان بن ذبيان من فيء المسلمين فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس المحمول، وبئس المولود، ثم نشأتَ فكنتَ جباراً عنيداً، تزعم أني من الظالمين إنْ حَرَمْتُكَ وأهلَ بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أَظْلَمَ مِنِّي وأَتْرَكَ لعهد الله من استعمَلَكَ صبيّاً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم تكن له في ذلك نيَّة إلا حب الوالد لولده، فويل لك وويل لأبيك، ما أكثر خُصَماءكما يوم القيامة؟! وكيف ينجو أبوك من خُصَمائه؟ وإن أَظْلَمَ منّي وأتْرَكَ لعهدِ الله من استعمل الحجَّاج بن يوسف يسفك الدماء الحرام، ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قُرَّة بنَ شريك أعرابياً جافياً على مصر، أذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس العرب، فرويداً يا بن بنانة، فلو التقت حلقتا البطنان، وردّ الفيء إلى أهله، لتفرَّغت لك ولأهل بيتك، فوضعتكم على المحجَّة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم في بُنَيَّات الطريق، وما وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أكونَ رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإن لكلٍّ فيك حقاً، والسلام علينا، ولا ينالُ سلامُ الله الظالمين.

فلما بلغت الخوارجَ سيرةُ عمر وما ردَّ من المظالم اجتمعوا فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.

وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلَّت عنهم العَبرة قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، مم بكيت؟ قال: ذكرتُ مُنْصَرَفَ القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه.

وعن أبي سليم الهذلي قال: وخطب عمر بن عبد العزيز فقال:

أما بعد: فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سُدى، وإن لكم معاداً، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحُرِم الجنة التي عرضها السموات والأرض. ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر اليومَ وخاف، وباع نافذاً بباقٍ، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان.

ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتى تُرَدَّ إلى خير الوارثين، في كل يوم وليلة تشيِّعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صَدْعٍ من الأرض، في بطن صَدْعٍ، ثم تَدَعونه غير مُمَهَّدٍ ولا مُوَسَّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدَّم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب ما أعلم عندي، وما يبلغني عن أحد منكم ما يسعه ما عندي إلا وددت أنه يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه، وايم الله لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولاً، عالماً بأسبابه، ولكنْ سَبَقَ من الله عز وجل كتاب ناطق، وسنة عادلة، دلَّ فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته.

ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وشهق وبكى الناس، وكانت آخر خطبة خطبها.

يقول العبد الفقير:

لا يسعني بعد هذا الكلام إلا أن أقول: اللهم اجعل هذه الوصية ووصايا الصالحين حجة لنا لا علينا يوم القيامة، ونعوذ بك يا ربنا أن نكون مثل من قلت فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}، ومثل من قلت فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}. نسأل يا ربنا حسن الختام، والحمد لله رب العالمين.

أخوكم أحمد النعسان

راجياً منكم دعوة صالحة

**     **     **

 

الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 2 ]

محمد اديب السعيدي
 2008-12-04

جزاكم الله خيراً.

عمالر الناشد
 2008-12-02

جزاك الله كل خير أبا شريف.

 

مواضيع اخرى ضمن  من وصايا الصالحين

05-03-2020 4835 مشاهدة
47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد

 05-03-2020
 
 4835
27-02-2020 3798 مشاهدة
46ـ وصية أبي الدرداء (3)

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد

 27-02-2020
 
 3798
21-02-2020 2985 مشاهدة
45ـ وصية أبي الدرداء (2)

إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد

 21-02-2020
 
 2985
06-02-2020 4823 مشاهدة
44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد

 06-02-2020
 
 4823
30-01-2020 5157 مشاهدة
43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد

 30-01-2020
 
 5157
25-10-2014 17138 مشاهدة
42ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنهُما

فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد

 25-10-2014
 
 17138

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412729997
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :