7ـ أثر الإيمان بالآخرة في النفوس

7ـ أثر الإيمان بالآخرة في النفوس

7ـ أثر الإيمان بالآخرة في النفوس

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): أَثَرُ الإِيمَانِ بِالآخِرَةِ في النُّفُوسِ

إِنَّ إِيمَانَ المُؤْمِنِ بِالآخِرَةِ لَهُ آثَارُهُ القَوِيَّةُ في نَفْسِ المُؤْمِنِ، بَلْ وَفِي عَقْلِهِ وَفِي جَمِيعِ مَدَارِكِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَيْقَنَ بِوُجُودِ الآخِرَةِ، أَصْبَحَ في حَالِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ هُنَاكَ مَسْؤُولِيَّةً عَلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمُحَاسَبَةً عَلَى مَا يُقَدِّمُهُ وَمَا يُؤَخِّرُهُ، وَيُبْطِنُهُ وَيُظْهِرُهُ، وَيُخْفِيهِ وَيُعْلِنُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى صِدْقِ القَوْلِ، وَإِصْلَاحِ العَمَلِ، وَإِحْسَانِهِ في المُعَاشَرَةِ، وَيُلْزِمُهُ بِالنُّصْحِ لِعِبَادِ اللهِ تعالى، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَوَفَاءِ العَهْدِ، وَالقِيَامِ بِمَوَاجِبِ الالْتِزَامَاتِ في المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا؛ مِنْ سَائِرِ العُقُودِ وَالالْتِزَامَاتِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَالُهُ كَذَلِكَ وَقَدْ أَيْقَنَ أَنَّ المُحَاسِبَ وَالدَّيَّانَ في ذَلِكَ اليَوْمِ الآخِرِ هُوَ رَبُّ العَالَمِينَ، الذي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ.

فَالإِيمَانُ بِالآخِرَةِ فِيهِ إِصْلَاحُ الدُّنْيَا وَمُجْتَمَعِهَا، وَسَيْرُ مُعَامَلَاتِهَا، وَإِصْلَاحُ الآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الإِيمَانَ بِالآخِرَةِ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إلى الجِدِّ وَالعَمَلِ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ القُعُودِ وَالكَسَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّفُوسَ البَشَرِيَّةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى أَنْ تَسْتَعِدَّ للمُسْتَقْبَلِ.

أَلَا تَرَى الوَلَدَ النَّاشِئَ، وَالذي دَخَلَ مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ يَتَطَلَّعُ لِمُسْتَقْبَلِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَسْتَعِدُّ لَهُ جَادَّاً في الدِّرَاسَةِ أَو الصِّنَاعَةِ أَو الزِّرَاعَةِ أَو نَحْوِ ذَلِكَ، في حِينِ أَنَّهُ مِنَ المُحْتَمَلِ أَنْ يُدْرِكَ مُسْتَقْبَلَهُ الذي يُؤَمِّلُهُ في الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُدْرِكَهُ المَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مُسْتَقْبَلُهُ الذي يُؤَمِّلُهُ مِنَ العُمُرِ الذي كَانَ يَطْمَحُ إِلَيْهِ.

وَلَكِنَّ هُنَاكَ مُسْتَقْبَلَاً أَكِيدَاً مُحَقَّقَ الوُقُوعِ، لَا مَخْلَصَ مِنْهُ، وَالانْتِهَاءُ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ المَوْتِ، فَإِنَّ الغَدَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ المُحْتَمَلِ أَنْ يُدْرِكَهُ الإِنْسَانُ، أَو يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ غَدُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا غَدُ الآخِرَةِ ـ وَهُوَ مَا بَعْدَ المَوْتِ ـ فَإِنَّهُ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ فِيهِ، فَإِنَّ المَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُدْرَى مَتَى يَكُونُ.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.

أَيْ: مَاذَا قَدَّمَتْ لِغَدِ الآخِرَةِ وَهُوَ مَا بَعْدَ المَوْتِ.

وَفِي هَذِهِ الآيَةِ تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ للعُقَلَاءِ الذينَ يَسْتَعِدُّونَ لِمُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهِمْ في الدُّنْيَا: أَنْ يَعْتَبِرُوا، وَيَنْظُرُوا، وَيُفَكِّرُوا في المُسْتَقْبَلِ المُحَقَّقِ الأَكِيدِ، الذي هُوَ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ في الدُّنْيَا، وَأَنْ يُعِدُّوا عُدَّتَهُ، ذَلِكَ لِأَنَّ الاسْتِعْدَادَ لِمُسْتَقْبَلٍ مُحَقَّقِ الانْتِهَاءِ إِلَيْهِ هُوَ أَوْلَى وَأَوْجَبُ عَلَى العَاقِلِ، مِنَ الاسْتِعْدَادِ لِمُسْتَقْبَلٍ مُحْتَمَلٍ أَنْ يُدْرِكَهُ وَيَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَهُوَ المُسْتَقْبَلُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

فَالاسْتِعْدَادُ في الآخِرَةِ أَهَمُّ وَأَوْجَبُ، وَذَلِكَ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالأَقْوَالِ الصَّادِقَةِ، وَالنِّيَّاتِ الطَّيِّبَةِ، وَالأَخْلَاقِ الحَسَنَةِ، وَالإِخْلَاصِ للهِ تعالى في ذَلِكَ.

قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾.

وَفِي: (المُسْنَدِ) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ، فَقَالَ: «عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟».

فَقِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ.

فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعَاً، حَتَّى انْتَهَى إِلَى القَبْرِ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، قَالَ البَرَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَيْ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ ـ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ اليَوْمِ فَأَعِدُّوا» الحَدِيثَ.

فَاللهُ تعالى أَمَرَ بِالتَّزَوُّدِ في الدُّنْيَا، وَهُوَ اتِّخَاذُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ في السَّفَرِ، ثُمَّ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ إلى السَّفَرِ الأَبْعَدِ وَالأَطْوَلِ؛ وَهُوَ السَّفَرُ إلى الآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَحْوَجُ إلى الزَّادِ، وَلَكِنَّ زَادَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ زَادِ أَسْفَارِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا زَادُ سَفَرِ الآخِرَةِ تَقْوَى اللهِ تعالى، وَذَلِكَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى؛ ثُمَّ نَبَّهَ العُقَلَاءَ إلى التَّعَقُّلِ وَالتَّفْكِيرِ في ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾. فَشَأْنُ أُولِي الأَلْبَابِ أَنْ يَتَزَوَّدُوا لِآخِرَتِهِمْ.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ» الحِدَيثَ.

وَرَوَى الحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ـ أَيْ: أَفْطَنُ وَأَعْقَلُ؟ ـ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرَاً لِلْمَوْتِ وَأَكْثَرُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادَاً».

تاريخ الكلمة:

الخميس: 28/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 29/آب / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

11-01-2024 197 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 197
29-12-2023 211 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 211
14-12-2023 225 مشاهدة
58ـ عالم الحوض

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾. في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ... المزيد

 14-12-2023
 
 225
28-09-2023 519 مشاهدة
57ـ لواء الحمد

لَقَدْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ أَلْوِيَةِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَاسِعًا كُلَّ السَّعَةِ، يَأْوِي ... المزيد

 28-09-2023
 
 519
16-09-2023 503 مشاهدة
56ـ حشر كل إنسان مع محبوبه

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 16-09-2023
 
 503
25-07-2023 295 مشاهدة
55ـ طول الموقف يوم القيامة

قَالَ تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * ... المزيد

 25-07-2023
 
 295

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414947576
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :