43ـ تغسيلهما بعد موتهما

43ـ تغسيلهما بعد موتهما

بر الوالدين

43ـ تغسيلهما بعد موتهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ حُقُوقِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ عَلَى الأَبْنَاءِ تَغْسِيلُهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ رَدِّ الإِحْسَانِ وَالمَعْرُوفِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَوْلُودٍ مِنَّا وُلِدَ إِلَّا وَأَسْرَعَ أَبَوَاهُ بِتَغْسِيلِهِ وَالاعْتِنَاءِ بِهِ.

وَإِذَا كَانَ تَغْسِيلُ المَيْتِ مَطْلُوبٌ مِنَّا شَرْعَاً، فَتَغْسِيلُ الأَبَوَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى.

حُكْمُ تَغْسِيلِ المَيْتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ تَغْسِيلَ المَيْتِ المُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ، بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ الإِثْمُ عَنِ البَاقِينَ، لِحُصُولِ المَقْصُودِ بِالبَعْضِ كَسَائِرِ الوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الكِفَايَةِ.

وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ تَغْسِيلُ المَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ، هَذِهِ سُنَّتُكُمْ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ، إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمَعَهُمْ أَكْفَانُهُ وَحَنُوطُهُ، وَمَعَهُمُ الْفُؤُوسُ وَالمَسَاحِي وَالمَكَاتِلُ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ، مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ، أَوْ مَا تُرِيدُونَ وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ؟

قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ فَاشْتَهَى مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ.

قَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ قَضَاءُ أَبِيكُمْ.

فَجَاءُوا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ، فَلَاذَتْ بِآدَمَ، فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَإِنِّي إِنَّمَا أُوتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ، خَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ مَلَائِكَةِ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

فَقَبَضُوهُ، وَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَحَنَّطُوهُ، وَحَفَرُوا لَهُ وَأَلْحَدُوا لَهُ، وَصَلَّوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلُوا قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ الْقَبْرِ، ثُمَّ حَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ.

هَذَا إِذَا كَانَ في حَقِّ المُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ، فَكَيْفَ بِحَقِّ الأَبَوَيْنِ عَلَى الوَلَدِ؟

التَّعْجِيلُ بِتَجْهِيزِ المَيْتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِ المَيْتِ إِذَا تُيُقِّنَ مِنْ مَوْتِهِ، لِمَا روى أبو داود عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ، أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ، مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ فِيهِ المَوْتُ، فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ».

وروى الترمذي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا عَلِيُّ، ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا آنَتْ، وَالجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئَاً».

وَيُسْتَحْسَنُ التَّعْجِيلُ إِلَّا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ مَصْلَحَةٌ.

قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَأُحِبُّ إذَا مَاتَ المَيِّتُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ أَهْلُهُ غُسْلَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُغْشَى عَلَيْهِ، فَيُخَيَّلُ إلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، حَتَّى يَرَوْا عَلَامَاتِ المَوْتِ المَعْرُوفَةَ فِيهِ، وَهُيَ: أَنْ تَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ، وَلَا تَنْتَصِبَانِ، وَأَنْ تَنْفَرِجَ زَنْدَا يَدَيْهِ، وَالعَلَامَاتُ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا المَوْتَ، فَإِذَا رَأَوْهَا عَجَّلُوا غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ. اهـ.

وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ دَفْنِ المَيِّتِ إذَا بَانَ مَوْتُهُ، فَإِذَا أَشْكَلَ أَحْبَبْتُ الْأَنَاةَ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ.

وَإِنْ كَانَ المَيِّتُ غَرِيقَاً أَحْبَبْتُ التَّأَنِّي بِهِ بِقَدْرِ مَا يُوَلَّى مِنْ حَفْرِهِ.

وَإِنْ كَانَ مَصْعُوقَاً أَحْبَبْتُ أَنْ يُسْتَأْنَى بِهِ حَتَّى يُخَافَ تَغَيُّرُهُ، وَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ يُصْعَقُ فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ، ثُمَّ يُفِيقُ بَعْدَ الْيَوْمَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فَزِعَاً مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَبُعٍ، أَوْ فَزِعَاً غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ مُتَرَدِّيَاً مِنْ جَبَلٍ. اهـ.

فَإِذَا تَأَكَّدَ مِنْ مَوْتِهِ وَجَبَ تَغْسِيلُهُ، ثُمَّ تَكْفِينُهُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ـ إِنْ كَانَ مُسْلِمَاً ـ ثُمَّ دَفْنُهُ، وَهَذَا مَا أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَيْهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَأَوْلَى النَّاسِ بِتَغْسِيلِهِ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، كَالأَبِ ثُمَّ الجَدِّ، ثُمَّ الابْنِ، ثُمَّ ابْنِ الابْنِ، وَيَجُوزُ للزَّوْجَةِ تَغْسِيلُ زَوْجِهَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ، إِلَّا رِوَايَةً عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

وَقَدْ أَمَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُمَّ عَطِيَّةَ وَمَنْ مَعَهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ ـ عِنْدَ تَغْسِيلِهِنَّ السَّيِّدَةَ زَيْنَبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ابْنَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَغْسِلْنَهَا ثَلَاثَاً، أَوْ خَمْسَاً، أَوْ سَبْعَاً، إِذَا رَأَيْنَ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَيَجْعَلْنَ فِي الغَسْلَةِ الآخِرَةِ كَافُورَاً.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ ـ وَهُوَ مُحْرِمٌ ـ فَمَاتَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيَاً» رواه الشيخان.

بَلْ قَدْ غُسِّلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ وَفَاتِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَمِنْ حَقِّ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ تَعْجِيلُ تَغْسِيلِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ لَهُمَا.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَرْحَمَ أُصُولَنَا وَفُرُوعَنَا وَأَزْوَاجَنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 26/ شوال /1440هـ، الموافق: 30/ حزيران / 2019م

 2019-07-03
 683
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  بر الوالدين

25-10-2020 2290 مشاهدة
71ـ لين الجانب لهما والقول الكريم لهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد

 25-10-2020
 
 2290
18-10-2020 1739 مشاهدة
70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد

 18-10-2020
 
 1739
04-10-2020 1056 مشاهدة
69ـ الحرص على هدايتهما (2)

حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد

 04-10-2020
 
 1056
21-09-2020 830 مشاهدة
68ـ الحرص على هدايتهما (1)

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد

 21-09-2020
 
 830
08-03-2020 1781 مشاهدة
67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد

 08-03-2020
 
 1781
06-03-2020 1208 مشاهدة
66ـ شكر الله تعالى على ما أنعم (2)

مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد

 06-03-2020
 
 1208

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414951171
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :