9ـ أهمية التصوف (2)

9ـ أهمية التصوف (2)

9ـ أهمية التصوف (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ:

وَأَمَّا أَقْوَالُ العُلَمَاءِ:

لَقَدْ عَدَّ العُلَمَاءُ الأَمْرَاضَ القَلْبِيَّةَ مِنَ الكَبَائِرِ التي تَحْتَاجُ إِلَى تَوْبَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، قَالَ صَاحِبُ "جَوْهَرَةُ التَّوْحِيدِ"

وَأْمُرْ بِعُرْفٍ وَاجْـتَـنِبْ نَمِيمَه   ***   وَغِـيبَةً وَخَـصْلَةً ذِمِـيمَه

كَالعُجْبِ وَالكِبْرِ وَدَاءِ الحَسَدِ   ***   وَكَالمِرَاءِ وَالجَدَلْ فَاعْتَمِدِ

يَقُولُ شَارِحُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ ـ وَخَصْلَةً ذَمِيمَةً ـ: أَيْ وَاجْتَنِبْ كُلَّ خَصْلَةٍ ذَمِيمَةٍ شَرْعَاً، وَإِنَّمَا خَصُّ الـمُصَنِّفِ مَا ذَكَرَهُ؛ يُعَدُّ اهْتِمَامَاً بِعُيُوبِ النَّفْسِ، فَإِنَّ بَقَاءَهَا مَعَ إِصْلَاحِ الظَّاهِرِ كَلُبْسِ ثِيَابٍ حَسَنَةٍ عَلَى جِسْمٍ مُلَطَّخٍ بِالقَاذُورَاتِ، وَيَكُونُ أَيْضَاً كَالعُجْبِ وَهُوَ رُؤْيَةُ العِبَادَةِ وَاسْتِعْظَامُهَا، كَمَا يُعْجَبُ العَابِدُ بِعِبَادَتِهِ وَالعَالِمُ بِعِلْمِهِ، فَهَذَا حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ الرِّيَاءُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمِثْلُ العُجْبِ الظُّلْمُ وَالبَغْيُ وَالكِبْرُ وَدَاءُ الحَسَدِ وَالـمِرَاءُ وَالجَدَلُ.

وَيَقُولُ الفَقِيهُ الكَبِيرُ العَلَّامَةُ ابْنُ عَابِدِينَ في حَاشِيَتِهِ الشَّهِيرَةِ: (إِنَّ عِلْمَ الإِخْلَاصِ وَالعُجْبِ وَالحَسَدِ وَالرِّيَاءِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَمِثْلُهَا غَيْرُهَا مِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ، كَالكِبْرِ وَالشُّحِّ وَالحِقْدِ وَالغِشِّ وَالغَضَبِ وَالعَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ وَالطَّمَعِ وَالبُخْلِ وَالبَطَرِ وَالخُيَلَاءِ وَالخِيَانَةِ وَالـمُدَاهَنَةِ، وَالاسْتِكْبَارِ عَنِ الحَقِّ وَالـمَكْرِ وَالـمُخَادَعَةِ وَالقَسْوَةِ وَطُولِ الأَمَلِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي رُبُعِ الـمُهْلِكَاتِ مِنَ "الإِحْيَاءِ".

قَالَ فِيهِ: وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهَا بَشَرٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهَا مَا يَرَى نَفْسَهُ مُحْتَاجَاً إلَيْهِ، وَإِزَالَتُهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَعَلَامَاتِهَا وَعِلَاجِهَا، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ).

وَيَقُولُ صَاحِبُ "الهَدِيَّةُ العَلَائِيَّةُ": (وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَالإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الحَسَدِ، وَاحْتِقَارِ الـمُسْلِمِينَ، وَإِرَادَةِ الـمَكْرُوهِ بِهِمْ، وَالكِبْرِ وَالعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ، وَجُمْلَةِ الخَبَائِثِ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ، بَلِ السَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالفُؤَادُ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولَاً، مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الاخْتِيَارِ).

وَيَقُولُ صَاحِبُ "مَرَاقِي الفَلَاحِ": (لَا تَنْفَعُ الطَّهَارَةُ الظَّاهِرَةُ إِلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ البَاطِنَةِ، بِالإِخْلَاصِ، وَالنَّزَاهَةِ عَنِ الغِلِّ وَالغِشِّ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ، وَتَطْهِيرِ القَلْبِ عَمَّا سِوَى اللهِ مِنَ الكَوْنَيْنِ، فَيَعْبُدُهُ لِذَاتِهِ لَا لِعِلَّةٍ، مُفْتَقِرَاً إِلَيْهِ، وَهُوَ يَتَفَضَّلُ بِالـمَنِّ بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ الـمُضْطَرِّ بِهَا عَطْفَاً عَلَيْهِ، فَتَكُونُ عَبْدَاً فَرْدَاً للمَالِكِ الأَحَدِ الفَرْدِ، لَا يَسْتَرِقُّكَ شَيْءٌ مِنَ الأَشْيَاءِ سِوَاهُ، وَلَا يَسْتَمْلِكُ هَوَاكَ عَنْ خِدْمَتِكَ إِيَّاهُ.

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

رُبَّ مَسْتُورٍ سَبَتْهُ شَهْوتُهْ  

 

قَدْ عُرِّيَ مِنْ سَتْرِهِ وَانْهَتَكَا  

صَاحِبُ الشَّهْوةِ عَبْدٌ فَإِذَا  

 

مَلَكَ الشَّهْوَةَ أَضْحَى مَلِكَا  

فَإِذَا أَخْلَصَ للهِ، وَبِمَا كَلَّفَهُ بِهِ وَارْتَضَاهُ قَامَ فَأَدَّاهُ، حَفَّتْهُ العِنَايَةُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ وَتَيَمَّمَ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.

قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ في "الحَاشِيَةِ": دَلِيلُهُ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾.

فَكَمَا لَا يَحْسُنُ بِالـمَرْءِ أَنْ يَظْهَرَ أَمَامَ النَّاسِ بِثِيَابٍ مُلَطَّخَةٍ بِالأَقْذَارِ وَالأَدْرَانِ، لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ قَلْبَهُ مَرِيضَاً بِالعِلَلِ الخَفِيَّةِ، وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

تُطَبِّبُ جِسْمَكَ الفَانِي لِيَبْقَى  

 

وَتَتْرُكُ قَلْبَكَ البَاقِي مَرِيضَاً  

لِأَنَّ الأَمْرَاضَ القَلْبِيَّةَ سَبَبُ بُعْدِ العَبْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَبُعْدِهِ عَنْ جَنَّتِهِ الخَالِدَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"

وَعَلَى هَذَا فَسَلَامَةُ الإِنْسَانِ في آخِرَتِهِ هِيَ فِي سَلَامَةِ قَلْبِهِ، وَنَجَاتُهُ فِي نَجَاتِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِ الـمَذْكُورَةِ.

وَقَدْ تَخْفَى عَلَى الإِنْسَانِ بَعْضُ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَتَدُقُّ عَلَيْهِ عِلَلُ قَلْبِهِ، فَيَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ الكَمَالَ، وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْهُ، فَمَا السَّبِيلُ إِلَى اكْتِشَافِ أَمْرَاضِهِ، وَالتَّعَرُّفُ عَلَى دَقَائِقِ عِلَلِ قَلْبِهِ؟ وَمَا الطَّرِيقُ العَمَلِيُّ إِلَى مُعَالَجَةِ هَذِهِ الأَمْرَاضِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْهَا؟

إِنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ الذي اخْتَصَّ بِمُعَالَجَةِ الأَمْرَاضِ القَلْبِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ صِفَاتِهَا النَّاقِصَةِ.

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 6/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 4/تشرين الأول / 2019م

 2019-10-05
 1214
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  حقائق عن التصوف

01-11-2020 1581 مشاهدة
27ـ أخذ العهد

مِمَّا سَبَقَ ثَبَتَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمُرِيدِ الكَمَالِ أَنْ يَلْتَحِقَ بِمُرْشِدٍ يَتَعَهَّدُهُ بِالتَّوْجِيهِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الطَّرِيقِ الحَقِّ وَيُضِيءُ لَهُ مَا أَظْلَمَ مِنْ جَوَانِبِ نَفْسِهِ، حَتَّى يَعْبُدَ اللهَ تَعَالَى عَلَى ... المزيد

 01-11-2020
 
 1581
24-10-2020 1329 مشاهدة
26ـ شروط المرشد

وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَكَّى نَفْسَهُ عَلَى يَدِ مُرَبٍّ وَمُرْشِدٍ، فَخَبَرَ مَرَاتِبَ النَّفْسِ وَأَمْرَاضَهَا وَوَسَاوِسَهَا، وَعَرَفَ أَسَالِيبَ الشَّيْطَانِ وَمَدَاخِلَهُ. وَآفَاتِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ ... المزيد

 24-10-2020
 
 1329
17-10-2020 1305 مشاهدة
25ـ البحث عن الوارث المحمدي (2)

يَقُولُ ابْنُ عجيبة: (وَالنَّاسُ في إِثْبَاتِ الخُصُوصِيَّةِ وَنَفْيِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: 1ـ قِسْمٌ أَثْبَتُوهَا للمُتَقَدِّمِينَ وَنَفَوْهَا عَنِ الـمُتَأَخِّرِينَ؛ وَهُمْ أَقْبَحُ العَوَامِّ. 2ـ وَقِسْمٌ أَقَرَّوْهَا قَدِيمَاً وَحَدِيثَاً، ... المزيد

 17-10-2020
 
 1305
11-10-2020 1411 مشاهدة
24ـ البحث عن الوارث المحمدي

البَحْثُ عَنِ الوَارِثِ المُحَمَّدِيِّ: مِمَّا سَبَقَ يَتَبَيَّنُ أَهَمِّيَّةُ صُحْبَةِ الوَارِثِ الـمُحَمَّدِيِّ للتَّرَقِّي فِي مَدَارِجِ الكَمَالِ، وَتَلَقِّي دُرُوسِ الآدَابِ وَالفَضَائِلِ، وَاكْتِشَافِ العُيُوبِ الخَفِيَّةِ وَالأَمْرَاضِ ... المزيد

 11-10-2020
 
 1411
11-10-2020 1633 مشاهدة
23ـ أقوال العارفين في فائدة الصحبة (6)

قَالَ شَيْخُنَا الكَبِيرُ مُرَبِّي العَارِفِينَ وَالدَّالُّ عَلَى اللهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ الهَاشِمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَاسْلُكْ يَا أَخِي عَلَى يَدِ شَيْخٍ حَيٍّ عَارِفٍ بِاللهِ، صَادِقٍ نَاصِحٍ، لَهُ عِلْمٌ صَحِيحٌ، وَذَوْقٌ صَرِيحٌ، ... المزيد

 11-10-2020
 
 1633
10-03-2020 2377 مشاهدة
22ـ أقوال العارفين في فائدة الصحبة (5)

قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَد زَرُّوق رَحِمَهُ اللهُ في قَوَاعِدِهِ: (أَخْذُ العِلْمِ وَالعَمَلِ عَنِ الـمَشَايِخِ أَتَمُّ مِنْ أَخْذِهِ دُونَهُم ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49] ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ ... المزيد

 10-03-2020
 
 2377

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414637241
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :