16ـ ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾

16ـ ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾

16ـ ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى مُخَاطِبَاً حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا تَجْرِيمَ إِلَّا بِنَصٍّ، وَلَا نَصَّ إِلَّا بِبَلَاغٍ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى بِخَلْقِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولَاً﴾. وَمُهِمَّةُ الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةَ اللهِ تعالى، وَيَدْعُوَ النَّاسَ إلى اللهِ تعالى بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَبِالمُجَادَلَةِ بِالتي هِيَ أَحْسَنُ، ثُمَّ يُبَشِّرُهُمْ إِنِ اسْتَجَابُوا، وَيُنْذِرُهُمْ إِذَا أَعْرَضُوا.

ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أَيْ: وَخُصَّ رَبَّكَ وَحْدَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَاسْتَحْضِرْ دَائِمَاً وَأَبَدَاً أَنَّ رَبَّكَ الذي تَوَلَّى أَمْرَكَ وَتَرْبِيَتَكَ وَأَصْلَحَ أَمْرَكَ، وَجَعَلَكَ أَهْلَاً لِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ هُوَ الأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ، وَهُوَ الأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ، هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ وَمُمِدُّهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ حَصْرَاً وَقَصْرَاً، فَلَا كَبِيرَ عَلَى الحَقِيقَةِ سِوَاهُ، وَالفَاءُ في كَلِمَةِ ﴿فَكَبِّرْ﴾ جِيءَ بِهَا للإِشْعَارِ بِأَنَّ الجُمْلَةَ وَاقِعَةٌ جَوَابَاً لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ وَشَأْنٍ وَشَيْءٍ فَكَبِّرْ رَبَّكَ حَصْرَاً لَا سِوَاهُ.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَضْمَنُ تَوْحِيدَ اللهِ تعالى، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ في ذَاتِهِ، وَوَاحِدٌ في صِفَاتِهِ، وَوَاحِدٌ في أَمْثَالِهِ، فَلَا شَبِيهَ، وَلَا مَثِيلَ، وَلَا نَظِيرَ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ عَظِّمْ قَدْرَ رَبِّكَ عَنِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْكَ في تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ المُسْتَجِيبَ لِدَعْوَتِكَ هُوَ مِمَّن سَبَقَتْ لَهُ الهِدَايَةُ مِنْ رَبِّكَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾. وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ.

فَكُلُّ أَحَدٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ صَغِيرٌ، وَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ الكَبِيرُ، وَتَتَوَارَى الأَجْرَامُ وَالأَحْجَامُ، وَالقِوَى وَالقِيَمُ، وَالأَحْدَاثُ وَالأَحْوَالُ، وَالمَعَانِي وَالأَشْكَالُ، وَتَنْحَنِي كُلُّهَا في ظِلَالِ الجَلَالِ وَالكَمَالِ للهِ الوَاحِدِ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾:

ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾. وَالمُرَادُ بِذَلِكَ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ، تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ، مَعَ طَهَارَةِ البَاطِنِ، لِأَنَّ العَرَبَ يُرِيدُونَ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ النَّزَاهَةَ وَالعِفَّةَ، فَتَقُولُ: فُلَانٌ ذَيْلُهُ طَاهِرٌ، أَو طَاهِرُ الذَّيْلِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ رَجُلٌ عَفِيفٌ، وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ ذَيْلُهُ نَجِسٌ، أَو نَجِسُ ذَيْلُهُ، يَعْنِي: لَطَّخَ نَفْسَهُ بِإِلْقَاءِ القَاذُورَاتِ وَالفَوَاحِشِ.

وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾. المَقْصُودُ طَهِّرْ قَلْبَكَ، وَطَهِّرْ نِيَّتَكَ، وَطَهِّرْ صَدْرَكَ، وَطَهِّرْ أَعْمَالَكَ مِنْ كُلِّ وَصْفٍ نَاقِصٍ وَمُخَالِفٍ وَلَا يُرْضِي مَوْلَاكَ.

وَلَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِالآيَةِ الطَّهَارَةَ الحِسِّيَّةَ.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ المَعْنَى: مَهْمَا اسْتَطَعْتَ في كُلِّ أَحْوَالِكَ فَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، وَخُصَّهَا بِالعِنَايَةِ بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّهَا مُصَاحِبَةٌ لَكَ، وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ إِذَا كَانَ العَبْدُ مَأْمُورَاً بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ فَالأَمْرُ بِطَهَارَةِ لَابِسِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى، لِأَنَّ طَهَارَةَ البَدَنِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الثِّيَابِ، وَطَهَارَةَ القَلْبِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ البَدَنِ.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُعْتَبَرُ عُنْوَانَاً للطَّهَارَةِ المَادِّيَّةِ مِنْ كُلِّ النَّجَاسَاتِ، وَعُنْوَانَاً للطَّهَارَةِ المَعْنَوِيَّةِ مِنْ كُلِّ المُخَالَفَاتِ، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَوَّلُهُمْ تَكْلِيفَاً، وَأَوَّلُهُمْ حِرْصَاً عَلَى تَطْبِيقِ مَا أَمَرَ اللهُ تعالى بِهِ أَو نَهَى عَنْهُ إِلْزَامَاً أَو تَرْغِيبَاً.

وَهَذَا مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَذَا الحَدِيثُ يَشْمَلُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَاتِ المَادِّيَّةِ، وَالنَّجَاسَاتِ المَعْنَوِيَّةِ، كَالشِّرْكِ وَارْتِكَابِ الكَبَائِرِ، التي هِيَ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 16/كانون الثاني / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  تفسير القرآن العظيم

05-11-2020 1297 مشاهدة
26ـ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... المزيد

 05-11-2020
 
 1297
30-10-2020 1306 مشاهدة
25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ ... المزيد

 30-10-2020
 
 1306
30-10-2020 1047 مشاهدة
72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا ... المزيد

 30-10-2020
 
 1047
22-10-2020 1166 مشاهدة
24ـ ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾

التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. ... المزيد

 22-10-2020
 
 1166
15-10-2020 1828 مشاهدة
23ـ ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾

لَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قَدْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، وَعَبَّرَ عَنْ دَهْشَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ... المزيد

 15-10-2020
 
 1828
08-10-2020 1522 مشاهدة
22ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (3)

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي ... المزيد

 08-10-2020
 
 1522

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3163
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414685944
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :