18ـ ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾

18ـ ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾

18ـ ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ الأَخْلَاقِ في الإِسْلَامِ، وَهُوَ الصَّبْرُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

لَقَدْ كَلَّفَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالقِيَامِ بِأَعْبَاءِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾. ثُمَّ قَالَ لَهُ: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. لَقَدْ أَمَرَهُ تَبَارَكَ وتعالى بِالصَّبْرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ، لِأَنَّهُ تَبَارَكَ وتعالى يَعْلَمُ بِأَنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ سَوْفَ يُكَذِّبُونَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُكَذِّبُونَهُ في إِنْذَارِهِ، وَيُكَذِّبُونَهُ في رِسَالَتِهِ؛ وَهَذَا مَا حَصَلَ فِعْلَاً، لَقَدْ قَابَلَ القَوْمُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالإِعْرَاضِ وَالإِدْبَارِ، وَوَجَّهُوا لَهُ الاتِّهَامَاتِ وَالشَّتَائِمَ وَأَنْوَاعَ العَذَابِ.

لِذَلِكَ كَانَتِ الحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنْ يُوَجِّهَ اللهُ تعالى مَعَ بِدَايَاتِ تَكْلِيفِهِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ الأَمْرَ بِأَنْ يَصْبِرَ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، غَيْرَ مُبَالٍ بِالنَّاسِ، وَلَا مُكْتَرِثٍ لِمَا يَنَالُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ مِنْ مَكْرُوهٍ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الأَذَى المَعْنَوِيِّ وَالمَادِّيِّ.

وُجُوبُ مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. دَرْسٌ عَظِيمٌ في الأَخْلَاقِ التي يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ وَخَاصَّةً الدَّاعِيَ إلى اللِه تعالى، الإِسْلَامُ أَمَانَةٌ في أَعْنَاقِنَا، يَجِبُ تَبْلِيغُهُ للآخَرِينَ، وَتَبْلِيغُهُ للآخَرِينَ يَحْتَاجُ إلى شَخْصِيَّاتٍ عَظِيمَةٍ تَحْمِلُ أَخْلَاقَاً سَامِيَةً رَاقِيَةً تَتَحَلَّى بِخُلُقِ الصَّبْرِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّبْرُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، الإِسْلَامُ لَا يَرْضَى مِنَّا مُجَرَّدَ الادِّعَاءِ وَمُجَرَّدَ الانْتِسَابِ، الإِسْلَامُ عَمَلِيَّةُ تَهْذِيبٍ وَتَعْلِيمٍ طَوِيلَةُ الأَمَدِ شَاقَّةُ المَرَاحِلِ.

الإِسْلَامُ يُرِيدُ مِنَّا ضَبْطَ النَّوَازِعِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالشُّعُورِ الدَّاخِلِيِّ الذي لَا يُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، الإِسْلَامُ يَطْلُبُ مِنَّا مُرَاقَبَةً مُسْتَمِرَّةً لِأَنْفُسِنَا، وَخَاصَّةً حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

الإِسْلَامُ يُرِيدُ أَنْ نَتَخَلَّى عَنْ كُلِّ نَازِعٍ وَشُعُورٍ دَاخِلِيٍّ لَا يَرْضَاهُ اللهُ تعالى لِعَبْدِهِ، الإِسْلَامُ يُرِيدُ طَرْدَ كُلِّ رَغْبَةٍ وَشَهْوَةٍ لَا تَلِيقُ بِالمُسْلِمِ الدَّاعِي إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

الإِسْلَامُ يُرِيدُ أَنْ تَظْهَرَ آثَارُ الطَّاعَاتِ وَالعِبَادَاتِ عَلَى جَوَارِحِنَا الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، تَدَبَّرُوا صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ التي هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ نُزُولَاً: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.

أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ، وَبَعْدَ تَكْبِيرِ اللهِ تعالى، وَبَعْدَ الأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَهَجْرِ الأَوْثَانِ، وَهَجْرِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، بَعْدَ كُلِّ هَذَا جَاءَ الأَمْرُ بِالصَّبْرِ للهِ تعالى.

صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَصَبْرٌ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَصَبْرٌ عَلَى إِيذَاءِ الخَلْقِ وَخَاصَّةً عِنْدَ دَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ تعالى، وَهَذَا التَّكْلِيفُ بِوُسْعِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الصَّادِقِ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا﴾. فَإِذَا لَمْ يَتَخَلَّقِ الإِنْسَانُ بِخُلُقِ الصَّبْرِ فَمَا مَعْنَى إِسْلَامِهِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ الأَزَلِيِّ عَلِمَ مَا سَيَلْقَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَيَلْقَاهُ الدُّعَاةُ وَالمُصْلِحُونَ الذينَ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ لِهَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ مِنْ الناس وَأَمَرَهُم بِدَعْوَةِ أَهْلِ البَاطِلِ وَالضَّلَالِ مُشْرِكِينَ كَانُوا أَو كُفَّارَاً أَو فُسَّاقَاً أَو فُجَّارَاً، لِذَا جَاءَ الأَمْرُ بِالصَّبْرِ للهِ تعالى، وَبِصِيغَةِ: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. مَا قَالَ: وَللهِ فَاصْبِرْ، بَلْ قَالَ: ﴿وَلِرَبِّكَ﴾. لِأَنَّهُ هُوَ الذي تَوَلَّى تَرْبِيَتَكَ التَّرْبِيَةَ الكَامِلَةَ الصَّالِحَةَ، حَتَّى تَكُونَ قُدْوَةً للآخَرِينَ.

في الخِتَامِ: الصَّبْرُ للهِ تعالى هُوَ الزَّادُ الثَّمِيْنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالمُؤْمِنُ بِدُونِ صَبْرٍ ضَائِعٌ تَائِهٌ، الصَّبْرُ هُوَ الزَّادُ للوُصُولِ إلى مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِلوُصُولِ إلى جَنَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِلوُصُولِ إلى مَعِيَّةِ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً، وَلِلوُصُولِ إلى اللِّقَاءِ مَعَ الأُصُولِ وَالفُرُوعِ وَالأَزْوَاجِ يَوْمَ القِيَامَةِ، بِالصَّبْرِ يَنْدَرِجُ العَبْدُ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الابْتِلَاءَاتِ، وَلَا تُحَمِّلْنَا يَا رَبَّنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 5/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 30/كانون الثاني / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  تفسير القرآن العظيم

05-11-2020 1297 مشاهدة
26ـ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... المزيد

 05-11-2020
 
 1297
30-10-2020 1306 مشاهدة
25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ ... المزيد

 30-10-2020
 
 1306
30-10-2020 1047 مشاهدة
72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا ... المزيد

 30-10-2020
 
 1047
22-10-2020 1166 مشاهدة
24ـ ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾

التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. ... المزيد

 22-10-2020
 
 1166
15-10-2020 1828 مشاهدة
23ـ ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾

لَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قَدْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، وَعَبَّرَ عَنْ دَهْشَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ... المزيد

 15-10-2020
 
 1828
08-10-2020 1521 مشاهدة
22ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (3)

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي ... المزيد

 08-10-2020
 
 1521

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3163
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414673116
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :