59ـ طاعة الوالدين وإن أمراه أن يخرج من الدنيا

59ـ طاعة الوالدين وإن أمراه أن يخرج من الدنيا

59ـ طاعة الوالدين وإن أمراه أن يخرج من الدنيا

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقُّ الوَالِدَيْنِ عَلَى الأَبْنَاءِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحْصِيَهُ إِنْسَانٌ، لِأَنَّ الوَالِدَيْنِ سَبَبٌ في وُجُودِ الأَبْنَاءِ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ الأَبْنَاءُ أَنْ يُحْصُوا مَا لَاقَاهُ الأَبَوَانِ مِنْ تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَأَذَىً، وَسَهَرٍ وَقِيَامٍ، وَقِلَّةِ رَاحَةٍ، وَعَدَمِ اطْمِئْنَانٍ، مِنْ أَجْلِ رَاحَةِ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، في سَبِيلِ رِعَايَتِهِمْ وَالعِنَايَةِ بِهِمْ، فَسَهَرٌ بِاللَّيْلِ، وَنَصَبٌ بِالنَّهَارِ، وَرِعَايَةٌ وَاهْتِمَامٌ بِالتَّنْظِيفِ في كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، وَحِمَايَةٌ مِنَ البَرْدِ وَالحَرِّ وَالمَرَضِ، وَتَعَهُّدٌ لِحَالَةِ الأَبْنَاءِ مِنْ جُوعٍ وَشِبَعٍ، وَعَطَشٍ وَرِيٍّ، وَتَحَسُّسٌ لِمَا يُؤْلِمُهُمْ، فَهُمَا يَقُومَانِ بِالعِنَايَةِ بِالوَلَدِ أَشَدَّ عِنَايَةٍ، فَيُرَاقِبَانِ تَحَرُّكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَمِشْيَتَهُ وَجُلُوسَهُ، وَضَحِكَهُ وَعُبُوسَهُ، وَصِحَّتَهُ وَمَرَضَهُ، يَفْرَحَانِ لِفَرَحِهِ، وَيَحْزَنَانِ لِحُزْنِهِ، وَيَمْرَضَانِ لِمَرَضِهِ.

يَرَى الأَبَوَانِ الحَيَاةَ نُورَاً عِنْدَمَا يَرَيَانِ وَلَدَهُمَا وَفِلْذَةَ كَبِدِهِمَا مَعَ الصِّبْيَانِ يَلْعَبُ، أَو إلى المَدْرَسَةِ ذَهَبَ، يَنْظُرَانِ إلى تَفَوُّقِهِ وَنَجَاحِهِ، وَتَخَرُّجِهِ وَزَوَاجِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَظِرَانِ بِكُلِّ شَوْقٍ وَلَهَفٍ مَاذَا سَيَكُونُ الجَزَاءُ مِنْهُ؟ وَمَا هِيَ المُكَافَأَةُ التي سَيَحْصُلَانِ عَلَيْهَا؟ هَلْ سَيَكُونُ جَزَاءُ الإِحْسَانِ هُوَ الإِحْسَانُ؟ أَمْ سَيَذْهَبُ ذَلِكَ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَيَكُونُ الجَزَاءِ نُكْرَانَ المَعْرُوفِ وَالجَمِيلِ وَالإِحْسَانِ؟

طَاعَةُ الوَالِدَيْنِ وَإِنْ أَمَرَاهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَيْنَا تُجَاهَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ في غَيْرِ مَعْصِيَةٍ للهِ تعالى، يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَتُهُمَا وَإِنْ أَمَرَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ مَالِنَا، لِأَنَّنَا وَمَا نِمْلِكُ لَهُمَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» رواه ابن ماجه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

روى الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفْرَدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتِسْعٍ: «لَا تُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئَاً؛ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلَا تَتْرُكَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ مُتَعَمِّدَاً، وَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدَاً بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلَا تَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ فَاخْرُجْ لَهُمَا، وَلَا تُنَازِعَنَّ وُلَاةَ الْأَمْرِ وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّكَ أَنْتَ، وَلَا تَفْرُرْ مِنَ الزَّحْفِ، وَإِنْ هَلَكْتَ وَفَرَّ أَصْحَابُكَ، وَأَنْفِقْ مِنْ طَوْلِكَ عَلَى أَهْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْ أَهْلِكَ، وَأَخِفْهُمْ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وروى الإمام أحمد عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ قَالَ: «لَا تُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئَاً وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدَاً؛ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدَاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرَاً؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ، وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ ـ الَموتُ الكَثِيرُ ـ  وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ، وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبَاً وَأَخِفْهُمْ فِي اللهِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَعَهَا مِنْ نَصِيحَةٍ صَدَرَتْ مِنْ خَيْرِ نَاصِحٍ أَمِينٍ، أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مَا أَحْوَجَنَا إلى أَنْ نَعِيشَ حَيَاتَنَا وِفْقَ هَذِهِ النَّصَائِحِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ الوَالِدَيْنِ مَا اسْتَطَعْنَا إلى ذَلِكَ سَبِيلَاً، وَرَحِمَ اللهُ تعالى وَالِدَاً وَوَالِدَةً أَعَانَا وَلَدَهُمَا عَلَى بِرِّهِمَا.

وَفِي الخِتَامِ: يَا أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، قَبْلَ أَنْ تَأْمُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِشَيْءٍ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأُمُورِ المَالِيَّةِ، تَذَكَّرُوا أَيَّامَكُمُ الخَوَالِيَ، وَتَصَوَّرُوا لَو أَنَّ آبَاءَكُمْ طَلَبُوا مِنْكُمْ مِثْلَ مَا تَطْلُبُونَ اليَوْمَ مِنْ أَبْنَائِكُمْ، ارْحَمُوا الأَبْنَاءَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَرَحِمَ اللهُ الأَبْنَاءَ الذينَ يُسْرِعُونَ في بِرِّ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بَرَرَةً بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 16/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 12/ كانون الثاني / 2020م

 2020-01-13
 2725
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  بر الوالدين

25-10-2020 2272 مشاهدة
71ـ لين الجانب لهما والقول الكريم لهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد

 25-10-2020
 
 2272
18-10-2020 1706 مشاهدة
70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد

 18-10-2020
 
 1706
04-10-2020 1040 مشاهدة
69ـ الحرص على هدايتهما (2)

حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد

 04-10-2020
 
 1040
21-09-2020 817 مشاهدة
68ـ الحرص على هدايتهما (1)

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد

 21-09-2020
 
 817
08-03-2020 1772 مشاهدة
67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد

 08-03-2020
 
 1772
06-03-2020 1196 مشاهدة
66ـ شكر الله تعالى على ما أنعم (2)

مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد

 06-03-2020
 
 1196

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3163
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414659668
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :