26ـ عذاب العصاة في البرزخ

26ـ عذاب العصاة في البرزخ

26ـ عذاب العصاة في البرزخ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

عَذَابُ العُصَاةِ في البَرْزَخِ:

جَاءَ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العُصَاةَ الذينَ لَمْ يَتُوبُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ يُعَذَّبُونَ في البَرْزَخِ بِمَعَاصِيهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا.

فَمِنْ ذَلِكَ عَذَابُ النَّمَّامِ، وَالغَيَّابِ، وَالذي لَمْ يَسْتَتِرْ وَلَمْ يَتَحَرَّزْ مِنْ بَوْلِهِ:

روى الشيخان واللفظ للبخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ

(أَيْ: وَمَا يُعَذَّبَانِ في ذَنْبٍ كَبِيرٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ اللهِ تعالى كَبِيرٌ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنَاً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ﴾.

وَقِيلَ: المُرَادُ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي أَمْرٍ كَبِيرٍ فَاحِشِ الكِبَرِ كَالقَتْلِ وَالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ في حَدِّ ذَاتِهِ هُوَ أَمْرَاً كَبِيرَاً وَمِنَ الكَبَائِرِ، وَإِذَا كَانَ المُسْلِمُ يُعَذَّبُ في قَبْرِهِ في هَذَا الأَمْرِ الكَبِيرِ، فَكَيْفَ عَذَابُهُ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ كَالقَتْلِ وَالزِّنَا، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالحَجِّ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ عَذَابَ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ).

أَمَّا هَذَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ

(أَيْ: لَا يَتَوَقَّى مِنْ بَوْلِهِ، لِمَا في رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ» وَالرِّوَايَاتُ تُفَسِّرُ بَعْضَهَا).

وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ، فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدَاً، وَعَلَى هَذَا وَاحِدَاً، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».

وَجَاءَ في رِوَايَةٍ للبُخارِيِّ في (الأَدَبِ المُفْرَدِ): «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَغْتَابُ النَّاسَ».

وروى الإمام أحمد وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ سِيَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» ـ أَيْ: بِالغِيبَة ـ الحديث.

قَالَ في الفَتْحِ: وَرُوَاتُهُ مَوْثُوقُونَ. اهـ.

وَجَاءَ في رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ».

وروى أبو داود، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ: يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ.

قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟

قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ».

قَالَ في: (الفَتْحِ): وَفي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالبَقِيعِ فَقَالَ: «مَنْ دَفَنْتُمُ اليَوْمَ هَهُنَا؟» الحديث.

قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا ـ أَيْ: المَقْبُورَيْنِ ـ كَانَا مُسْلِمَيْنِ، لِأَنَّ البَقِيعَ مَقْبَرَةُ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَيُقَوِّي كَوْنَهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ـ بَلَى: مَا يُعَذَّبَانِ إِلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ» فَهَذَا الحَصْرُ يَنْفِي كَوْنَهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ، لِأَنَّ الكَافِرَ وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى تَرْكِ أَحْكَامِ الإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الكُفْرِ بِلَا خِلَافٍ. اهـ.

وَجَاءَ فِيمَا صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعَاً: «أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْبَوْلِ» أَيْ: بِسَبَبِ تَرْكِ التَّحَرُّزِ مِنَ البَوْلِ.

وَفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ للمُسْلِمِ وَتَحْذِيرٌ لَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ بِأَنْوَاعِهَا: نَجَاسَةِ البَوْلِ الحِسِّيَّةِ، وَنَجَاسَةِ الأَخْلَاقِ المَعْنَوِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْهُمَا.

فَيَحْفَظُ لِسَانَهُ مِنْ إِيذَاءِ المُسْلِمِينَ: بِالسَّبِّ، وَالشَّتْمِ، وَالغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ هَفَوَاتِ اللِّسَانِ.

وَيَحْفَظُ جِسْمَهُ وَثِيَابَهُ مِنْ إِيذَاءِ نَجَاسَةِ البَوْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْثَرِ أَسْبَابِ عَذَابِ القَبْرِ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يُعَذَّبُ لِتَرْكِهِ الطَّهَارَةَ مِنَ البَوْلِ التي هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِعَذَابِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ عَذَابَهُ في قَبْرِهِ أَشَدُّ وَأَمَدُّ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» الحديث كما تَقَدَّمَ.

وَمِنْ أَسْبَابِ عَذَابِ القَبْرِ: صَلَاةٌ تُصَلَّى بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَعَدَمُ الانْتِصَارِ للمَظْلُومِ:

روى الإمام الطحاوي بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُوهُ، حَتَّى صَارَتْ وَاحِدَةً، فَضُرِبَ فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارَاً، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ أَفَاقَ فَقَالَ: عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي؟

قَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَمَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ».

وَفي: سُنَنِ (الدَّارقطنيِّ): عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ، وَمَنْ فَكَّ رِهَانَ مَيِّتٍ فَكَّ اللهُ رِهَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 10/ رجب /1441هـ، الموافق: 5/ آذار / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

11-01-2024 197 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 197
29-12-2023 211 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 211
14-12-2023 225 مشاهدة
58ـ عالم الحوض

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾. في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ... المزيد

 14-12-2023
 
 225
28-09-2023 519 مشاهدة
57ـ لواء الحمد

لَقَدْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ أَلْوِيَةِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَاسِعًا كُلَّ السَّعَةِ، يَأْوِي ... المزيد

 28-09-2023
 
 519
16-09-2023 503 مشاهدة
56ـ حشر كل إنسان مع محبوبه

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 16-09-2023
 
 503
25-07-2023 295 مشاهدة
55ـ طول الموقف يوم القيامة

قَالَ تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * ... المزيد

 25-07-2023
 
 295

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414945055
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :