751ـ خطبة الجمعة: عبودية وسلامة قلب

751ـ خطبة الجمعة: عبودية وسلامة قلب

751ـ خطبة الجمعة: عبودية وسلامة قلب

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ مَرَّتْ عَلَيْنَا ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَالتي اشْتَمَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ العِبَرِ وَالفَوَائِدِ، أَهَمُّهَا التَّحَقُّقُ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَلَامَةُ القَلْبِ وَالصَّدْرِ.

فَيَا مَنْ سَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. وَسَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾.

وَيَا مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» كَمَا في الإبانَةِ الكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

حَاوِلْ مَا اسْتَطَعْتَ جَاهِدًا أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُ الشَّرِيفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَوَّلًا: التَّحَقُّقُ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الحَبِيبَ الأَعْظَمَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، كَانَ مُتَحَقِّقًا بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْنَتَحَقَّقْ نَحْنُ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.

نَعَمْ لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ مُتَحَقِّقًا بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ في عِبَادَاتِهِ، وَفِي مُعَامَلَاتِهِ، وَفِي حِلِّهِ، وَفِي تَرْحَالِهِ، وَفِي قُوَّتِهِ، وَفِي ضَعْفِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ، وَفِي مَرَضِهِ، وَفِي أَفْرَاحِهِ، وَفِي أَحْزَانِهِ، مَا خَرَجَ عَنْ دَائِرَةِ العُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.

العَطَاءُ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ دَائِرَةِ العُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، وَكَذَلِكَ المَنْعُ، عِنْدَمَا شَدَّ عَلَى بَطْنِهِ الشَّرِيفِ الحَجَرَ وَالحَجَرَيْنِ مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ كَانَ مُتَحَقِّقًا بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِنْدَمَا فُتِحَتْ لَهُ الفُتُوحَاتُ وَجَاءَتْهُ الغَنَائِمُ مَا خَرَجَ عَنْ دَائِرَةِ العُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَدْ شَهِدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَمَا قَالَ عَنْهُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾. فَوَصَفَهُ بِأَعْلَى مَقَامٍ أَلَا وَهُوَ مَقَامُ العُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ حَقِيقَةِ هَذِهِ العُبُودِيَّةِ في ذَاتِهِ ـ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، الذي شَهِدَ اللهُ تعالى بِصِدْقِهِ، وَشَهِدَ لَهُ أَعْدَاؤُهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ، وَقَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا ـ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ عَنْ ذَاتِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ.

صَاحِبُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ تَحَقَّقَ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى في سَائِرِ أَحْوَالِهِ، فَأَكْرَمَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ، أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذِهِ العُبُودِيَّةِ في أَفْرَاحِنَا وَأَتْرَاحِنَا، وَفِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا؟ أَيْنَ عُبُودِيَّتُنَا للهِ تعالى، البَعْضُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالأَنَا الفِرْعَوْنِيَّةِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، فَهَلْ في مِثْلِ هَذَا الحَالِ يُمْكِنُ للعَبْدِ أَنْ يَسْرِيَ وَيَعْرُجَ بِرُوحِهِ في ظِلِّ إِسْرَاءِ وَمِعْرَاجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

ثانيًا: التَّحَقُّقُ بِسَلَامَةِ القَلْبِ وَطَهَارَتِهِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الحَبِيبَ الأَعْظَمَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، كَانَ مُتَحَقِّقًا بِسَلَامَةِ القَلْبِ وَطَهَارَتِهِ مِنَ الحِقْدِ وَالغِلِّ وَالبَغْضَاءِ، فَمَا عَرَفَ الحِقْدَ وَلَا الغِلَّ وَلَا البَغْضَاءَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَلَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَعْدَائِهِ كَمَا اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَحْبَابِهِ عَلَى أَنَّهُ مَا رَأَتْ عَيْنٌ صَاحِبَ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَقَلْبٍ سَلِيمٍ، كَخُلُقِ وَقَلْبِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَوْقِفِهِ يَوْمَ الطَّائِفِ عِنْدَمَا جَاءَهُ مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ.

فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَقَدْ عَفَا وَصَفَحَ لِأَنَّهُ كَانَ في حَالَةِ ضَعْفٍ، فَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَلَامُ إِنْسَانٍ غَيْرِ سَوِيٍّ، عَلَى كُلٍّ، نَرُدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا القَوْلِ: هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ المُنْتَصِرُ، قَالَ للقَوْمِ: «مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟».

قَالُوا خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.

قَالَ «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» سيرة ابن هشام.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ أَرَادَ غِيَاثًا مِنَ اللهِ تعالى، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ، كَمَا أُغِيثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الطَّائِفِ وَأُكْرِمَ بِحَادِثَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، فَعَلَيْهِ بِالتَّحَقُّقِ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، وَبِسَلَامَةِ القَلْبِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ، لِأَنَّ صَاحِبَ القَلْبِ السَّلِيمِ إِنْسَانٌ رَحِيمٌ، وَالرَّحِيمُ مَرْحُومٌ، «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

لِنَهْتَمَّ بِسَلَامَةِ قُلُوبِنَا، وَكَفَانَا غِلًّا وَحِقْدًا وَبَغْضَاءَ.

اللَّهُمَّ حَقِّقْنَا بِالعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَكْرِمْنَا بِطَهَارَةِ قُلُوبِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 28/ رجب /1442هـ، الموافق: 12/آذار / 2021م

 2021-03-12
 2360
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 164 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 164
10-05-2024 331 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 331
02-05-2024 577 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 577
26-04-2024 537 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 537
19-04-2024 833 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 833
12-04-2024 1552 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1552

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414946427
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :