62ـ ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾

62ـ ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾

62ـ ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى في الآيَاتِ الأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾.

روى الإمام البخاري عَنْ عُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا﴾ أَوْ كُذِبُوا؟

قَالَتْ: «بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ».

فَقُلْتُ: وَاللهِ لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ، وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ.

فَقَالَتْ: يَا عُرَيَّةُ، لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ.

قُلْتُ: فَلَعَلَّهَا أَوْ كُذِبُوا.

قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ، لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الآيَةُ، قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، وَطَالَ عَلَيْهِمُ البَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: ﴿اسْتَيْأَسُوا﴾ اسْتَفْعَلُوا، مِنْ يَئِسْتُ مِنْهُ مِنْ يُوسُفَ، ﴿لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ﴾ مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ.

وروى الإمام البخاري قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مَعَاذَ اللهِ، وَاللهِ مَا وَعَدَ اللهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلِ البَلَاءُ بِالرُّسُلِ، حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ؛ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا﴾ مُثَقَّلَةً.

﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾:

قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ هُنَاكَ قِرَاءَتَانِ في ﴿كُذِبُوا﴾ الأُولَى بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الأَكْثَرِينَ، وَالثَّانِيَةُ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ ﴿كُذِّبُوا﴾ وَهِيَ قِرَاءَةُ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَطَائِفَةٍ مِنَ القُرَّاءِ.

مَعْنَى: ﴿كُذِبُوا﴾ بِالتَّخْفِيفِ، حَيْثُ وَقَعَ في نُفُوسِ المُخَاطَبِينَ مِنْ قِبَلِ رُسُلِهِمْ كَذِبُ الرُّسُلِ، بِسَبَبِ تَأَخُّرِ مَا أُنْذِرُوا بِهِ، وَظَنُّوا مِنْ طُولِ زَمَنِ تَأْخِيرِ العَذَابِ، أَنَّ الرُّسُلَ ـ حَاشَاهُمْ ـ كَاذِبُونَ في إِنْذَارِهِمْ.

وَمَعْنَى: ﴿كُذِّبُوا﴾ بِالتَّشْدِيدِ، يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ قَدِ اسْتَيْأَسُوا حَتَّى ظَنُّوا ـ أَيْ: عَلِمُوا ـ أَنَّهُمْ كُذِّبُوا، فَيَئِسُوا مِنْ إِيمَانِ غَيْرِ مَنْ آمَنُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ أَيْ: جَاءَ نَصْرُ اللهِ تعالى لِرُسُلِهِ، بَغْتَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتسِبُونَ.

﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ وَهُمُ الذينَ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَاتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ الذينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الإِجْرَامِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، حَتَّى صَارُوا قَوْمًا مِنْ شَأْنِهِمُ الإِجْرَامُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:

أولًا: أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْطُرَ عَلَى بَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ تعالى قَدْ كَذَبَهُمْ وَعْدَهُ ـ مَعَاذَ اللهِ ـ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ رُسُلِ اللهِ تعالى؟

ثانيًا: نَصْرُ اللهِ تعالى يَأْتِي بَعْدَ الزَّلْزَلَةِ الشَّدِيدَةِ، لِيَكُونَ وَقْعُهُ كَوَقْعِ المَاءِ عَلَى ذِي الغُلَّةِ الصَّادِي؛ تَخَيَّلْ شَوْقَ العَطْشَانِ لِكُوبِ المَاءِ؛ وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.

المُؤْمِنُونَ سَأَلُوا ـ وَهُمْ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِوَعْدِ اللهِ، وَلَكِنْ سَأَلُوا عَنِ الزَّمَنِ ـ: ﴿مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾؟ فَأَجَابَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.

فَكُلُّ آتٍ مِنَ اللهِ تعالى قَرِيبٌ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ وَعْدَ اللهِ تعالى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ، قَالَ تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾.

ثالثًا: إِبْطَاءُ النَّصْرِ مِنَ اللهِ تعالى يُعْطِي غُرُورًا للكَافِرِينَ يَجْعَلُهُمْ يَتَمَادَوْنَ في الغُرُورِ، وَهَؤُلَاءِ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.

فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ تعالى تَتَضَاعَفُ فَرْحَةُ المُؤْمِنِينَ، كَمَا يَتَضَاعَفُ غَمُّ الكَافِرِينَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، فأَعْرَضَ الكَثِيرُونَ مِنْهُمْ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، وَوَقَفُوا مِنْهُمْ مَوْقِفَ المُنْكِرِ وَالمُعَانِدِ وَالمُحَارِبِ لِهِدَايَتِهِمْ، وَضَاقَ الرُّسُلُ ذَرْعًا بِمَوْقِفِ هَؤُلَاءِ الجَاحِدِينَ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ الكِرَامُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الجَاحِدِينَ، وَظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ أَقْوَامَهُمُ الجَاحِدِينَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ بِكُلِّ مَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ تعالى الذي لَا يَتَخَلَّفُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي في الوَقْتِ الذي يُرِيدُهُ اللهُ تعالى.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُعَجِّلَ بِالفَرَجِ، وَأَنْ يُرِيَنَا عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ في القَوْمِ الظَّالِمِينَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 29/ جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 3/ كانون الثاني / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 368 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 368
31-07-2023 394 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 394
08-05-2023 614 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 614
19-04-2023 468 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 468
14-04-2023 345 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 345
11-04-2023 425 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 425

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414640225
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :