81 ـ كلمة شهر ذي القعدة 1434هـ : البقاءُ للصَّالِحِ

81 ـ كلمة شهر ذي القعدة 1434هـ : البقاءُ للصَّالِحِ

 

 81 ـ كلمة شهر ذي القعدة 1434هـ : البقاءُ للصَّالِحِ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: دَوامُ الحالِ من المُحالِ، والعاقِبَةُ للمُتَّقينَ، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. يُثابُ الصَّابِرُ المُصابُ المُحِقُّ، ويَنتَقِمُ اللهُ من الظَّالِمِ بالظَّالِمِ وبالمَحقِ، فإنَّ أيَّامَ الدُّنيا دُوَلٌ بينَ النَّاسِ، لا يَدومُ سُرورُها ولا يَدومُ غَمُّها لأحَدٍ منهُم، فمن سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتْهُ أزمانُ.

أيُّها الإخوة الكرام: ولكن لِيَعلَمِ الجَميعُ بأنَّ نِهايَةَ المَطافِ سَيَحِقُّ الحَقُّ، ويَزهَقُ الباطِلُ، والعاقِبَةُ للمُتَّقينَ، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾. وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾.

البَقاءُ للصَّالِحِ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَحِمَ اللهُ تعالى من قال:

إنَّ البَلاءَ وإن طالَ الزَّمانُ به   ***   فالحَقُّ يَقطَعُهُ أو سوفَ يَنقَطِعُ

جاءَ في كنزِ العُمَّال عن هبار بن الاسود قال: كانَ أبو لَهَبٍ وابنُهُ عتيبة تَجَهَّزا إلى الشَّامِ، فَتَجَهَّزتُ مَعَهُمَا، فقال ابنُهُ عتيبة: والله لأنطَلِقَنَّ إلى محمَّدٍ ولأوذِيَنَّهُ في ربِّهِ سُبحانَهُ وتعالى.

فانطَلَقَ حتَّى أتى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمَّد، هوَ يَكفُرُ بالذي دَنا فَتَدَلَّى فكانَ قابَ قَوسَينِ أو أدنى.

فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ ابعَث عليه كَلباً من كِلابِكَ».

ثمَّ انصَرَفَ عنهُ، فَرَجَعَ إلى أبيهِ، فقال: يا بُنَيَّ، ما قُلتَ له؟

فَذَكَرَ لهُ ما قال له، ثمَّ قال: فما قالَ لكَ؟

قال: قال: اللَّهُمَّ سَلِّط عَلَيهِ كَلباً من كِلابِكَ.

فقال: والله يا بُنَيَّ ما آمَنُ عَلَيكَ دُعاءَهُ، فَسِرنا حتَّى نَزَلنا السراةَ، وهيَ مأسدة، فَنَزَلنا إلى صَومَعَةِ راهِبٍ.

فقال الرَّاهِبُ: يا مَعشَرَ العَرَبِ، ما أنزَلَكُم هذهِ البِلادَ؟ فإنَّما تَسرَحُ الأسدُ فيها كما تَسرَحُ الغَنَمُ.

فقال لنا أبو لهب: إنَّكُم عَرَفتُم. كَبُرَ سِنِّي وحَقِّي.

فقُلنا: أجل يا أبا لهب.

فقال: إنَّ هذا الرَّجُلَ قد دَعا على ابنَي دَعوَةً والله ما آمَنُها عَلَيه، فاجمَعوا مَتاعَكُم إلى هذهِ الصَّومَعَةِ وافرُشوا لابني عَلَيها، ثمَّ افرُشوا حَولَها.

فَفَعَلنا فَجَمَعنا المتاعَ ثمَّ فَرَشنا له عَلَيهِ وفَرَشنا حَولَهُ، فَبَينا نحنُ حَولَهُ وأبو لَهَبٍ مَعَنا أسفلَ وباتَ هوَ فوقَ المتاعِ، فجاءَ الأسدُ فَشَمَّ وُجوهَنا، فلمَّا لم يَجِد ما يُريدُ تَقَبَّضَ فَوَثَبَ وَثبَةً فإذا هوَ فوقَ المتاعِ، فَشَمَّ وَجهَهُ ثمَّ هَزَمَهُ هَزمَةً فَفَشَخَ رَأسَهُ.

فقال أبو لهب: لقد عَرَفتُ أنَّهُ لا يَنفَلِتُ من دَعوَةِ محمَّدٍ. أورده السيوطي في الخصائص الكبرى. وقال السيوطي: وأخرجه ابن اسحاق وأبو نعيم من طرق أخرى مرسلة.

أولاً: أرواحُ المؤمنينَ تأوي إلى تِلكَ الرَّحمَةِ:

روى الشيخان عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

فَقَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ».

فالعَبدُ المؤمنُ إذا ماتَ استَراحَ وأوَت رُوحُهُ إلى الله تعالى، ويَجعَلُ اللهُ تعالى قَبرَهُ رَوضَةً من رِياضِ الجَنَّةِ، حتَّى تَقومَ السَّاعَةُ، فإذا قامَت جَعَلَهُ اللهُ تعالى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ، فإذا بَدَأَ الحِسابُ حاسَبَهُ اللهُ تعالى حِساباً يَسيراً.

ثانياً: إذا تابَ العَبدُ إلى الله تعالى استَقبَلَهُ بالرَّحمَةِ:

روى الشيخان عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً.

فَنَزَلَ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾.

وَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله﴾.

ثالثاً: إذا تابَ العَبدُ قَبلَ مَوتِهِ سَتَرَهُ اللهُ تعالى يَومَ القِيامَةِ:

روى الإمام البخاري عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟

فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ.

حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: لِنَصطَلِحْ معَ الله تعالى معَ الله تعالى، ولا نَيأسْ ولا نَقنَطْ من رَحمَةِ الله تعالى، جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عن فَضَالَة بْن عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ ـ يعني: لا خَيرَ فيهِم ـ رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِياً، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ فَمَاتَ، وَامْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ.

وَثَلَاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ، رَجُلٌ نَازَعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رِدَاءَهُ، فَإِنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ الْعِزَّةُ، وَرَجُلٌ شَكَّ فِي أَمْرِ الله، وَالْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله».

اللَّهُمَّ ارحَمنا فإنَّكَ بنا راحِمٌ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 1/ذو القعدة /1434هـ، الموافق: 7 /أيلول / 2013م

 2013-09-07
 22820
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

09-05-2024 107 مشاهدة
213ـ أقبلوا على الملك العليم العلام

إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ مَحْدُودَةُ الآجَالِ، وَأَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ تَمْضِي سَرِيعَةً إلى الزَّوَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا ... المزيد

 09-05-2024
 
 107
09-04-2024 199 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 199
13-03-2024 299 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 299
09-02-2024 541 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 541
13-01-2024 367 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 367
14-12-2023 491 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 491

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414945913
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :