878ـ خطبة الجمعة: اجعلوا هذا العام الهجري مميزًا

878ـ خطبة الجمعة: اجعلوا هذا العام الهجري مميزًا

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَّتِهِ عَلَيْنَا، أَنَّنَا في بَدْءِ كُلِّ عَامٍ هِجْرِيٍّ نَبْدَأُ وَقَدْ مَنَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا بِمِنَّةِ المَغْفِرَةِ لِذُنُوبِنَا، رَحْمَتُهُ مُقَسَّمَةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ، قِسْمٍ في آخِرِ العَامِ الهِجْرِيِّ المُنْصَرِمِ، وَقِسْمٍ في بَدْءِ العَامِ الهِجْرِيِّ الجَدِيدِ، كَيْ نَبْدَأَ العَامَ في طُهْرٍ وَسَلَامَةٍ مِنْ أَيِّ عَائِقٍ يَمْنَعُ مِنَ الانْطِلَاقِ في مُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بِنُفُوسٍ طَاهِرَةٍ، وَعُقُولٍ مُنَوَّرَةٍ، وَأَرْوَاحٍ مُشْرِقَةٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ: يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ اليَوْمُ التَّاسِعُ مِنَ الشَّهْرِ الأَخِيرِ في العَامِ الهِجْرِيِّ، يَغْفِرُ اللهُ تعالى فِيهِ لِكُلِّ حَاجٍّ صَادِقٍ في حَجِّهِ، مُلْتَزِمٍ بِالهَدْيِ المُحَمَّدِيِّ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمَنْ لَمْ يَكْتُبِ اللهُ تعالى لَهُ الحَجَّ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، وَحَجَّ قَلْبًا وَرُوحًا مَعَ الحَجِيجِ فَهُوَ وَالحَاجُّ الصَّادِقُ في الأَجْرِ سَوَاءٌ، وَخَاصَّةً إِذَا صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ جَاءَتْهُ البِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مَا بَيْنَ حَاجٍّ صَادِقٍ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ، وَحَاجٍّ بِرُوحِهِ مَعَ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَكُونُ خِتَامُ العَامِ الهِجْرِيِّ بِمَغْفِرَةٍ وَعَفْوٍ وَرِضْوَانٍ.

وَمَعَ الأَيَّامِ الأُولَى مِنَ العَامِ الهِجْرِيِّ الجَدِيدِ تَأْتِي الجَائِزَةُ الثَّانِيَةُ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مَا أَجْمَلَ العَبْدَ عِنْدَمَا يَفْتَتِحُ عَامَهُ بِطَاعَةٍ بَعْدَ أَنْ خَتَمَهُ بِطَاعَةٍ، وَكَانَ مَغْفُورَ الذَّنْبِ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا أَجْمَلَ العَبْدَ عِنْدَمَا يَخْتِمُ عَامَهُ بِتَوْبَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ، وَيَبْدَأُ عَامَهُ الجَدِيدَ بِالعَزْمِ عَلَى صِدْقِ التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ.

اجْعَلُوا هَذَا العَامَ الهِجْرِيَّ الجَدِيدَ مُمَيَّزًا:

يَا عِبَادَ اللهِ: عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا بِخَتْمِ العَامِ المَاضِي بِالمَغْفِرَةِ، وَبَدْءِ عَامٍ جَدِيدٍ بِالمَغْفِرَةِ كَذَلِكَ، فَهَلُمُّوا نَجْعَلْ هَذَا العَامَ الهِجْرِيَّ مُمَيَّزًا، في سُلُوكِنَا وَأَخْلَاقِنَا وَأَحْوَالِنَا، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

هَلُمُّوا نَنْتَقِلْ في هَذَا العَامِ الهِجْرِيِّ مِنْ سَيِّئٍ إلى حَسَنٍ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَحَالٍ وَنِيَّةٍ، بَلْ هَلُمُّوا نَنْتَقِلْ مِنْ حَالِ الحَسَنِ إلى الأَحْسَنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.

هَلُمُّوا يَا شَبَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَيَا شَابَّاتِهَا إلى انْتِقَاءِ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ القَائِلِ:

وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أَيَّامَ غَفْلَةٍ   ***   فَمَا وَاصَلَ الأَحْبَابَ مَنْ لَا يُقَاطِعُ

وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَاهْجُرُوا قُرَنَاءِ السَّوْءِ الذينَ ضَيَّعُوا دِينَ وَأَخْلَاقَ أَصْدِقَائِهِمْ، وَجَعَلُوهُمْ يَخُوضُونَ في الرَّذِيلَةِ، وَتَذَكَّرُوا يَا شَبَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَيَا شَابَّاتِهَا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾. وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.

لِنَجْعَلْ هَذَا العَامَ مُمَيَّزًا بِالتَّطَهُّرِ مِنْ جَمِيعِ المَعَاصِي وَالفِتَنِ، وَخَاصَّةً فِتْنَةَ النِّسَاءِ وَالمَالِ، وَاصْبِرُوا وَصَابِرُوا في هَذِهِ الأَجْوَاءِ المَشْحُونَةِ بِفِتْنَةِ النِّسَاءِ وَالمَالِ، وَأَنْتُمْ تَسْتَحْضِرُونَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا أَيُّهَا العَبْدُ المُؤْمِنُ، كُنْ مُتَمَيِّزًا فَأَنْتَ أَوْلَى بِالتَّمَيُّزِ مِنْ غَيْرِكَ، كُنْ قُدْوَةً صَالِحَةً فَأَنْتَ أَهْلٌ لذَاكَ، كُنْ مُتَفَائِلًا طَمُوحًا لِسِيَرِ الرِّجَالِ الذينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ تعالى عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

كُنْ حَرِيصًا عَلَى جَمِيعِ الخَيْرَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِهَا، كُنْ صَاحِبَ بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، كُنْ صَاحِبَ عَقْلٍ مُنَوَّرٍ، كُنْ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.

يَا أَيُّهَا العَبْدُ المُؤْمِنُ، الطَّرِيقُ أَمَامَكَ، حَدِّدْ مَسَارَكَ في بِدَايَةِ عَامِكَ الهِجْرِيِّ، كُنْ عَبْدًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، كُنْ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلَا تَظْلِمُوا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَكُنْ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَأَخِيرًا كُنْ مِنَ القَلِيلِ لَا مِنَ الكَثِيرِ، كُنْ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.

وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 3/ المحرم /1444هـ، الموافق: 21/ تموز / 2023م