24ـ دروس رمضانية 1435هـ: (ارفعوا عنكم التنازع والخصام)

 

 24ـ دروس رمضانية 1435هـ: (ارفعوا عنكم التنازع والخصام)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد استَقبَلنَا شَهرَ رَمَضَانَ، وأَسرَعَت أَيَّامُهُ بالانصِرَامِ، قَرُبَ رَحِيلُ هذا الشَّهرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وأَزِفَ تَحوِيلُهُ، وأن تُطوَى صَحَائِفُهُ، ها هوَ شَهرُ رَمَضَانَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ، كَانَ شَهراً عَظِيمَاً، خَيرُهُ كَثِيرٌ، بِرُّهُ عَظِيمٌ، أسأَلُ اللهَ تعالى بأسمَائِهِ الحُسنَى، وصِفَاتِهِ العُلا، أن يُبَلِّغَنَا آخِرَ يَومٍ مِنهُ، وقد أَعتَقَ رِقَابَنَا من النَّارِ، ورَضِيَ عَنَّا رِضَاءً لا سَخَطَ بَعدَهُ، وأن يَكُونَ هذا الشَّهرُ شَاهِدَاً لَنَا لا عَلَينَا، آمين.

أَحسِنُوا وَدَاعَ شَهرِكُم:

أيُّها الإخوة الكرام: أَحسِنُوا وَدَاعَ شَهرِكُم هذا، وذلكَ باستِدرَاكِ ما فَاتَنَا من الخَيرَاتِ العِظَامِ، ضَاعِفُوا الاجتِهَادَ في هذهِ اللَّيَالِي المُتَبَقِّيَةِ، لأنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا دَخَلَ العَشرُ الأَخِيرُ، طَوَى فِرَاشَهُ، وشَدَّ مِئزَرَهُ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.

وروى الإمام مسلم عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: أَكثِرُوا من ذِكْرِ اللهِ تعالى في هذهِ الأَيَّامِ المُتَبَقِّيَةِ، وخَاصَّةً كَلِمَةَ التَّوحِيدِ والاستِغفَارَ والدُّعَاءَ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ اللهَ الْجَنَّةَ وَتَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِن النَّارِ» رواه ابن خُزَيمَةَ عن سَلمَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ كما جَاءَ في التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ.

أَكثِرُوا من صَلاةِ النَّافِلَةِ في هذهِ الأَيَّامِ المُتَبَقِّيَةِ، وخَاصَّةً صَلاةَ التَّرَاوِيحِ والقِيَامِ، وذلكَ للحَدِيثِ القُدسِيِّ الذي يَقُولُ فِيهِ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

أَكثِرُوا من الصَّدَقَاتِ في هذهِ الأَيَّامِ المُتَبَقِّيَةِ، وتَأَسَّوا بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الشيخان عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِن الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.

أَكثِرُوا من تَفطِيرِ الصَّائِمِينَ في هذهِ الأَيَّامِ المُتَبَقِّيَةِ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

اِرفَعُوا عَنكُمُ التَّنَازُعَ والخِصَامَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَطلُبُ لَيلَةَ القَدْرِ في العَشرِ الأَخِيرِ من رَمَضَانَ، تِلكَ اللَّيلَةُ لَيلَةُ القُربِ والمُنَاجَاةِ، لَيلَةُ تَنَزُّلِ القُرآنِ، لَيلَةُ الرَّحمَةِ والغُفرَانِ، لَيلَةٌ خَيرٌ من أَلفِ شَهرٍ لمن قَامَهَا إيمَاناً واحتِسَاباً، والحَسرَةُ كُلُّ الحَسرَةِ على من فَاتَتْهُ تِلكَ اللَّيلَةُ في السَّنَوَاتِ المَاضِيَةِ، والأَسَفُ كُلُّ الأَسَفِ على من سَتَفُوتُهُ في اللَّيالِي القَادِمَةِ.

أيُّها الإخوة الكرام: اِرفَعُوا عَنكُمُ التَّنَازُعَ والخُصُومَاتِ، وخَاصَّةً سَفْكَ الدِّمَاءِ، وتَهدِيمَ البُيُوتِ، وسَلْبَ الأَموَالِ، ولا تَكُونُوا سَبَباً في حَجْبِ رَحمَةِ اللهِ عزَّ جلَّ عَنكُم بِسَبَبِ خُصُومَاتِكُم وتَشَاحُنِكُم وتَحَاسُدِكُم وتَدَابُرِكُم.

روى الإمام البخاري عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِن الْمُسْلِمِينَ.

فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ ­بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ، اِلْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».

أَشغِلُوا ألسِنَتَكُم بِذِكْرِ اللهِ تعالى وتِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، روى الحاكم والإمام أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ.

قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللهِ».

وهذا سَيِّدُنَا أبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ كَانَ يَأخُذُ لِسَانَهُ ويَقُولُ: إنَّ هذا أَورَدَنِي المَوَارِدَ. رواه الإمام مالك في المُوَطَّأ.

ويَقُولُ سَيِّدُنَا عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ الذي لا إلهَ إلا هوَ، مَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أَحَقُّ بِطُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ. رواه الطَّبَرَانِيُ في الكَبِيرِ.

وروى الطَّبَرَانِيُ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ».

وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: كَثْرَةُ المَعَاصِي والمُنكَرَاتِ تُقَسِّي القَلبَ وتُعمِيهِ، وأبعَدُ القُلُوبِ عن اللهِ تعالى قُلُوبُ العَاصِينَ، فمن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكثِرْ من الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ في هذهِ الأَيَّامِ المُتَبَقِّيَةِ.

ومن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكثِرْ من ذِكْرِ اللهِ تعالى والاستِغفَارِ وتِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ.

ومن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليَصِلْ من قَطَعَهُ، وليَعفُ عَمَّن ظَلَمَهُ، وليُحسِنْ لمن أَسَاءَ إلَيهِ.

ومن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خَيرَاً، وخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ في هذهِ الأَزمَةِ أو لِيَصمُتْ.

وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ يا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 24/ رمضان/1435هـ، الموافق: 22/تموز / 2014م