93ـ كلمة شهر ذي القعدة 1435هـ: (الآثار السلبية للغفلة عن التوبة)

 

 93ـ كلمة شهر ذي القعدة 1435هـ: (الآثار السلبية للغفلة عن التوبة)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ الغَفلَةَ عن التَّوبَةِ للهِ عزَّ وجلَّ لها آثَارٌ سَلبِيَّةٌ، وعَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ، تَجعَلُ الحَيَاةَ شَقَاءً وضَنكَاً، وتُعَرِّضُ العَبدَ المُذنِبَ المُصِرَّ على ذَنبِهِ بِدُونِ تَوبَةٍ للانتِقَامِ من اللهِ تعالى الجَبَّارِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا، وللعَذَابِ في الآخِرَةِ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

مِفتَاحُ الخَيرِ التَّوبَةُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد دَعَانَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الغَنِيُّ عَنَّا إلى سَبِيلِ النَّجَاةِ المُحَقِّقِ للفَلاحِ والنَّجَاحِ، وللظَّفَرِ بما عِندَ اللهِ تعالى من نَعِيمٍ دَائِمٍ لا يَزُولُ ولا يَحُولُ، وصَاحِبُهُ من الخَالِدِينَ فِيهِ ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

هذا السَّبِيلُ هوَ التَّوبَةُ إلى اللهِ تعالى مِمَّا اجتَرَحَتْهُ جَوَارِحُنَا من فِسقٍ وفُجُورٍ ومُخَالَفَاتٍ شَرعِيَّةٍ، فالتَّوبَةُ والإنَابَةُ إلى اللهِ تعالى مَطلَبٌ أَسَاسِيٌّ في حَيَاةِ العُقَلاءِ على مُستَوَى الأَفرَادِ والجَمَاعَاتِ والشُّعُوبِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لا يُوجَدُ ذَنبٌ مَهمَا عَظُمَ لا تَصِحُّ التَّوبَةُ مِنهُ، أو لا يَقبَلُ اللهُ تَوبَةَ عَبدِهِ مِنهُ، كَيفَ هذا يَكُونُ واللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً﴾. أَعظَمُ الذُّنُوبِ على الإطلاقِ الشِّركُ، ثمَّ القَتلُ، ثمَّ الزِّنَا، واللهُ تعالى فَتَحَ بَابَ التَّوبَةِ أَمَامَ الشِّركِ، وأَمَامَ قَاتِلِ العَمْدِ، وأَمَامَ مُنتَهِكِ الأَعرَاضِ.

أيُّها الإخوة الكرام: قَالَ بَعضُ المُفَسِّرِينَ في قَولِهِ تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾: نَزَلَتْ في قَومٍ كُفَّارٍ مِنْ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، قَالُوا: وَمَا يَنْفَعُنَا الإسْلاَمُ، وَنَحْنُ قد زَنَيْنَا، وَقَتَلْنَا النَّفْسَ، وأَتَيْنَا كُلَّ كبيرةٍ ؟ فَنَزَلَتِ الآيةُ فِيهِمْ، وقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ، وابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُم: هذِهِ أرْجَى آيَةٍ في القُرآنِ.

أيُّها الإخوة الكرام: عَلَينَا بالإنَابَةِ إلى اللهِ تعالى، ثمَّ بالإسلامِ لَهُ، ثمَّ باتِّبَاعِ الوَحْيِ الذي أُنزِلَ على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإلا فالعَاقِبَةُ وَخِيمَةٌ ـ وَرَبِّ الكَعبَةِ ـ لأنَّ اللهَ تعالى قَالَ: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. وقَالَ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

والتَّوبَةُ إلى اللهِ تعالى، والإنَابَةُ إِلَيهِ، واتِّبَاعُ شَرْعِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيسَتَ شَاقَّةً ومُعَقَّدَةً تُنهِكُ العَبدَ التَّائِبَ، بل هيَ رَاحَةٌ لِقَلبِهِ في الدُّنيَا، وسَعَادَةٌ لَهُ في الآخِرَةِ.

الآثَارُ السَّلبِيَّةُ للغَفلَةِ عن اللهِ عزَّ وجلَّ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الغَفلَةَ عن اللهِ تعالى سَبَبٌ للغَفلَةِ عن التَّوبَةِ، وهذهِ الغَفلَةُ لها آثَارٌ سَلبِيَّةٌ، ونَتَائِجُ فَادِحَةٌ، تُصِيبُ العَبدَ الغَافِلَ إصَابَةً قَاتِلَةً، بِحَيثُ يَندَمُ بَعدَهَا ولا يَنفَعُهُ النَّدَمُ، وخُصُوصَاً إذا وَقَعَت رُوحُهُ في الغَرغَرَةِ، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رواه الإمام أحمد والحاكم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما.

من آثَارِ الغَفلَةِ عن التَّوبَةِ:

أولاً: حَيَاةُ العَبدِ تُصبِحُ شَقَاءً وضَنكَاً ولو مَلَكَ الدُّنيَا بِأَسْرِهَا، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

ثانياً: نُزُولُ العَذَابِ بَغتَةً، وعِندَهَا لا يَجِدُ العَبدُ الغَافِلُ عن التَّوبَةِ مُعِينَاً، ولا مَنجَى، ولا مَلجَأً من هذا العَذَابِ، قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.

ثالثاً: الحَسْرَةُ والنَّدَامَةُ يَومَ القِيَامَةِ على التَفرِيطِ في دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، بِشَكلٍ لا يَخطُرُ في بَالٍ، وبِنَدَمٍ لا يَنفَعُ صَاحِبَهُ ـ والعِيَاذُ باللهِ تعالى ـ قال تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: وفي الخِتَامِ أَتَوَجَّهُ إلى إخوَانِي من أَهلِ بَلَدِي، وإلى جَمِيعِ أَهلِ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، وإلى كُلِّ مُسلِمٍ أَينَمَا كَانَ، وهوَ يَتَأَلَّمُ من نَتَائِجِ هذهِ الحَربِ التي أَحرَقَتِ الأَخضَرَ واليَابِسَ، لأَقُولَ لِنَفسِي أولاً، ولَهُم ثَانِيَاً:

إنَّ التَّوبَةَ إلى اللهِ تعالى من الذُّنُوبِ ـ مَهمَا عَظُمَت ـ مَكسَبٌ كَبِيرٌ، ومَغنَمٌ عَظِيمٌ، وأَيُّ فَوزٍ أَعظَمُ من أن يَمحُوَ اللهُ تعالى الذُّنُوبَ، وأن يُدخِلَ اللهُ تعالى العَبدَ الجَنَّةَ، وأن يُحَقِّقَ لَهُ سَعَادَةَ الدَّارَينِ؟

إخوَانِي لأَسمَعْ ولتَسمَعُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

بل اسمَحُوا لي أن أَقولَ: الأَعظَمُ من هذا أن يَفرَحَ اللهُ تعالى بِتَوبَةِ عَبدِهِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ؛ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ».

والأَعظَمُ من هذا أنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ العَبدَ التَّائِبَ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾.

ألا نُرِيدُ مَحْوَ الذُّنُوبِ؟ ألا نُرِيدُ السَّعَادَةَ في الدَّارَينِ؟ ألا نُرِيدُ مَحَبَّةَ اللهِ تعالى؟ فَعَلَيَّ وعَلَيكُم بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ من كُلِّ الذُّنُوبِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.

أخوكم

        أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 1/ ذو القعدة /1435هـ، الموافق: 27 /آب / 2014م