9ـ كلمة شهر ذي القعدة: أقرب الطرق للوصول إلى الله تعالى

 

الحمد لله الذي يسبِّح له كل شيء في الأرض والسماء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولياء والأصفياء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الطرق الموصلة إلى الله تعالى كثيرة، وسبلها عديدة، ومورد جميع الطرق ومنهل جميع السبل هو القرآن العظيم، إلا أن بعض هذه الطرق أقرب من بعض وأسلم وأعمّ.

ومن أقرب هذه الطرق وأسهلها طريق الفقر والذل، ولذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}.

فالفقر والعجز طريق موصل إلى الله تعالى كطريق العشق والحب، بل هو أقرب وأسلم، إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية.

والمقصود بالفقر والعجز إنما هو إظهار ذلك كله أمام الله سبحانه وتعالى، وليس إظهاره أمام الناس، ومن أراد سلوك هذا الطريق فعليه باتباع السنة النبوية بعد العمل بالفرائض، ولا سيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان، والعمل بالأذكار عقبها، وترك الكبائر.

ومن أكرمه الله تعالى بذلك عليه أن يسلك أربع خطوات:

الخطوة الأولى: أن يقف أمام قول الله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}، وقفة العبد المتدبر لهذه الآية العظيمة، لأن الإنسان حسب الجبلة التي جبل عليها محب لنفسه، بل لا يحب إلا ذاته في المقدمة، ويضحي بكل شيء من أجل ذاته، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق إلا بالمعبود سبحانه وتعالى وحده، وينزه نفسه ويبرئ ساحتها من كل ناقصة ويصفها بكل كمال، فيعجب بنفسه ويعتمد عليها، فلا بد من تزكية نفسه، ومن تزكيتها عدم تزكيتها، وأن يتذكر قول الله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}. وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}. فهو يزكي نفسه مدحاً وتبرئةً من كل ناقصة، والله نهى عن ذلك بقوله: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}.

الخطوة الثانية: أن يقف أمام قول الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} وقفة العبد المتدبر لهذه الآية العظيمة، وأن يعلم بأن الجزاء من جنس العمل، فمن نسي الله تعالى أنساه الله تعالى نفسه، فيظن العبد بأنه هو الفاعل وهو على كل شيء قدير، فإذا به يبدل صفاته الحقيقية بصفات وهمية، يبدل صفة الفقر إلى الله تعالى بالغنى عن الله بما آتاه الله تعالى، ويبدأ بتحويل كل صفات النقص بغيره دون نفسه.

فعلى العبد الذي يريد الوصول إلى الله تعالى أن لا ينسى نفسه مهما عظمت نعمة الله تعالى عليه {رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير}.

الخطوة الثالثة: أن يقف أمام قول الله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. وقفة العبد المتدبر، وليعلم بأنه من تمام فضل الله عليه أن خلق فيه ونسب إليه، وهذا من الامتحان والاختبار، فعلى العبد أن يعلم هذه الحقيقة القرآنية: {ما أصابك من حسنة فمن الله}. لأن الله يعلِّم هذا العبد أن يقول: {وما توفيقي إلا بالله}. وأن لا ينسى أنه لولا توفيق الله له لكان من الهالكين، وأن يرى كل محاسنه وكمالاته إحساناً من فاطره وخالقه جل جلاله، ويتقبلها نعماً منه سبحانه وتعالى، فيشكر الله تعالى عليها عندئذ، ويزداد حياءً منه تعالى بدل الفخر والاستعلاء، ويحمد الله تعالى بدل المدح لنفسه والمباهاة والافتخار على غيره، فعندها يكون من المفلحين: {قد أفلح من زكاها}.

الخطوة الرابعة: أن يقف العبد أمام قول الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}. وقفة العبد المتدبر، لأن النفس تتوهم بأنها حرة ومستقلة بذاتها، لذا تدعي نوعاً من الربوبية، وتضمر عصياناً حيال معبودها الحق جلت قدرته.

فإذا أدرك العبد حقيقة قول الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}. {كل من عليها فان}. {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}. أدرك أنه زائل مفقود، حادث معدوم، أنه راجع إلى ربه تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون}.

فعدمك في وجودك، ووجودك في عدمك، فإذا رأيت ذاتك وأعطيت لها وجوداً غرقت في ظلمات العدم والفراق، ولكن عندما تترك الأنانيَّة والغرور ترى نفسك حقاً أنها لا شيء، وإنما هي مرآةٌ تعكس تجليات موجدها الحقيقي، عندها تظفر بوجود غير متناه، وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من وجد الله فقد وجد كل شيء، ومن فَقَدَ الله فقد كل شيء، فما الموجودات جميعها إلا تجليّات أسمائه الحسنى وصفاته.

فأقرب الطرق التي توصلك إلى الله تعالى هو طريق الفقر والتبرؤ من الحول والقوة والقدرة والإرادة، وأن تتحقق بوصفك، الذي كان بداية لك ونهاية، فأوَّلك ضعف وفقر، وآخرك ضعف وفقر، فلا تغترّ بما بينهما، فإن ما بينهما عارية مستردة.

اللهم أخرجنا من غفلتنا وألهمنا رشدنا آمين. ولا تنس أخي الكريم أخاك من دعوة صالحة.