403ـ خطبة الجمعة: ربنا عز وجل يدعونا إلى دعائه

 

403ـ خطبة الجمعة: ربنا عز وجل يدعونا إلى دعائه

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، هذهِ الأُمَّةُ أُمَّةُ الاصطِفَاءِ، اِصطَفَاهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ لِحَمْلِ القُرآنِ العَظِيمِ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾. واصطَفَى لَهَا أَزمِنَةً وأَمكِنَةً وأَشخَاصَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ، ومن الأَزمِنَةِ التي اصطَفَاهَا اللهُ تعالى لهذهِ الأُمَّةِ يَومُ الجُمُعَةِ، فهوَ يَومُ بَدْءِ الخَلِيقَةِ، ويَومُ مُنتَهَى الدُّنيَا، وهوَ عِيدُ المُسلِمِينَ.

هَا نَحنُ في يَومِ الجُمُعَةِ الذي وَافَقَ خَيرَ أَيَّامِ الدُّنيَا يَومَ عَرَفَةَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه أبو داود قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ».

يَومُ عَرَفَةَ يَومُ الدُّعَاءِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، هذا اليَومُ العَظِيمُ يَومُ الجُمُعَةِ الذي وَافَقَ يَومَ عَرَفَةَ هوَ يَومُ الدُّعَاءِ، حَيثُ يَنزِلُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ إلى خَلْقِهِ، فَيَدنُو الرَّبُّ الحَمِيدُ المَجِيدُ في عَشِيَّةِ عَرَفَاتٍ من العَبِيدِ، فَيُبَاهِي بِهِم مَلائِكَتَهُ وحَمَلَةَ عَرشِهِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه  ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إذا كَانَ يَومُ عَرَفَةَ إنَّ اللهَ يَنزِلُ إلى السَّمَاءِ فَيُبَاهِي بِهِمُ المَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: اُنظُرُوا إلى عِبَادِي، أَتَونِي شُعْثَاً غُبْرَاً ضَاحِينَ من كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشهِدُكُم أَنِّي قَد غَفَرتُ لَهُم.

فَتَقُولُ لَهُ المَلائِكَةُ: أي رَبِّ، فِيهِم فُلانٌ يَزهُو، وفُلانٌ وفُلانٌ.

فَيَقُولُ اللهُ: قَد غَفَرتُ لَهُم».

قَالَ رَسُولُ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا مِن يَومٍ أَكثَرُ عَتِيقَاً من النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةَ».

يَدعُونَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ إلى دُعَائِهِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لقد دَعَانَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ إلى دُعَائِهِ، فَقَالَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» رواه الترمذي.

وبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بِأَنَّا إذا دَعَونَاهُ استَجَابَ لِدُعَائِنَا، فَقَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً خَائِبَتَيْنِ» رواه الترمذي.

﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيَّاً﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، من لَزِمَ الدُّعَاءَ لم يُدرِكْهُ الشَّقَاءُ، وكَيفَ يُدرِكُهُ الشَّقَاءُ بَعدَ أن أَطلَقَ اللهُ لِسَانَهُ بالدُّعَاءِ؟

روى الحاكم  عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَعجَزُوا في الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَهلَكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ».

ويَقُولُ فَارُوقُ هذهِ الأُمَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إِنِّي لا أَحمِلُ هَمَّ الِإجَابَةَ، ولكن أَحمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، فإنْ أُلهِمتُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّ الإِجَابَةَ مَعَهُ.

وهذا سَيِّدُنَا زَكَرِيَّا عَلَيهِ السَّلامُ يُؤَكِّدُ هذهِ الحَقِيقَةَ، كَمَا أَخبَرَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ عَنهُ: ﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيَّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيَّاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، أَلِظُّوا بالدُّعَاءِ، وخَاصَّةً في هذا اليَومِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، يَومِ الجُمُعَةِ يَومِ عَرَفَةَ، ولا تَعجِزُوا، ولا تَستبطِئُوا الإجَابَةَ، فَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُحِبُّ العَبدَ اللَّحُوحَ الصَّبُورَ المُتَضَرِّعَ البَاكِي، يُحِبُّ العَبدَ الرَّاضِي بِقَدَرِهِ بلا قُنُوطٍ، وقد أَكَّدَ هذا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» رواه الشيخان.

كُونُوا على يَقِينٍ من استِجَابَةِ الدُّعَاءِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ من استِجَابَةِ اللهِ لِدُعَائِكُم، ما لم تَظلِمُوا الآخَرِينَ، ما دَامَ المُسلِمُونَ سَلِمُوا من أَلسِنَتِكُم وأَيدِيكُم، كَيفَ لا يَستَجِيبُ اللهُ لِدُعَائِكُم وأَنتُم عِبَادُهُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ من يَقُولُ في هذهِ الأَزمَةِ: إنَّ اللهَ تعالى ما استَجَابَ دُعَاءَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، ولن يَستَجِيبَ، وشَكُّوا في وَعْدِ اللهِ تعالى الذي لا يُخلَفُ، وما ذَاكَ إلا لِضَعْفٍ في إيمَانِهِم، ولِسُوءِ ظَنِّهِم باللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ تعالى لا يُخلَفُ، وبأَنَّ دُعَاءَكُم مُستَجَابٌ عِندَ اللهِ تعالى، واقرَؤُوا كَلامَ رَبِّكُم لِتَجِدُوا بأَنَّ اللهَ تعالى أَجَابَ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، ولكن في الوَقتِ الذي يُرِيدُ، لا في الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ.

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِندَمَا قَالَ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْـمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾. ألا تَرَونَ أَفئِدَةَ النَّاسِ كَيفَ تَهوِي إلى ذَاكَ المَكَانِ المُقَدَّسِ؟ ألا تَرَونَ أنَّ خَيرَاتِ الدُّنيَا تَجِيءُ إلى البَلَدِ الحَرَامِ؟

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا زَكَرِيَّا عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِندَمَا قَالَ: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيَّاً﴾؟

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِندَمَا قَــالَ: ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾؟

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا ذِي النُّونِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِندَمَا قَالَ عَنهُ اللهُ تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْـمُؤْمِنِينَ﴾؟

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِندَمَا قَالَ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾؟

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي لا يُعَدُّ ولا يُحصَى؟

أَلَم يَستَجِبْ دُعَاءَ سَيِّدِنَا سَعْدٍ الذي ظَلَمَهُ أَهلُ الكُوفَةِ؟.

بل أَقُولُ: أَلَم يَستَجِبِ اللهُ لِدُعَائِنَا فِيمَا مَضَى من أَعمَارِنَا، فَكَم من دَعْوَةٍ استَجَابَهَا؟ وكَم من ضُرٍّ كَشَفَهُ؟ وكَم من مُهلِكَةٍ أَنقَذَنَا مِنهَا؟ وكَم من فِتنَةٍ عَصَمَنَا مِنهَا؟ وكَم من نِعمَةٍ أَسبَغَهَا عَلَينَا بِبَرَكَةِ الدُّعَاءِ؟

فَلِمَاذا ضَاقَت صُدُورُ بَعضِنَا إذا تَأَخَّرَ تَحقِيقُ الوَعْدِ من اللهِ تعالى الحَكِيمِ؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ بأَنَّ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ لن يَتَخَلَّى عَن عِبَادِهِ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ في بِلادِ الشَّامِ، وكُونُوا على يَقِينٍ بأَنَّ دُعَاءَ المَظلُومِينَ لن يَضِيعَ سُدَىً، حَتَّى ولو كَانُوا مُـسرِفِينَ في حَقِّ أَنفُسِهِم، لا في حَقِّ الآخَرِينَ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الـْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنْ كَانَ فَاجِراً، فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، أَلِظُّوا بالدُّعَاءِ، أَلِظُّوا بِقَولِ: يَا ذَا الجَلالِ والإكرَامِ، وبِقَولِ: بِرَحمَتِكَ نَستَغِيثُ، وبِقَولِ: يَا مَالِكَ يَومِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعبُدُ، وإِيَّاكَ نَستَعِينُ، وبِقَولِ: يَا رَبَّ المُستَضْعَفِينَ، أَنتَ رَبُّنَا، إلى مَن تَكِلُنَا؟

اللَّهُمَّ أَشرِكنَا في دُعَاءِ عِبَادِكَ الوَاقِفِينَ في أَرضِ عَرَفَةَ، وارحَمنَا يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ، واكشِفِ الغُمَّةَ عن هذهِ الأُمَّةِ عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ذو الحجة/1435هـ، الموافق: 3/تشرين الأول/ 2014م