29ـ مع الصحابة وآل البيت رضي: توديعه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ للحياة (5)

 

مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

29ـ توديعه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ للحياة (5)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: وَقَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على فِرَاشِ المَوْتِ، وعَصَبَ رَأْسَهُ، وأَخَذَتِ الحُمَّى تَنْفُضُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكُلُّ ذلكَ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وإِشْعَارِهِ بِأَنَّهُ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ تعالى، روى الترمذي عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمَاً ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».

وروى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي ـ بِأَبِي هوَ وأُمِّي ـ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكَاً شَدِيدَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ».

قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ».

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَىً مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».

في بَيْتِ أُمِّنَا السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها:

أيُّها الإخوة الكرام: روى البزار عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: نَعَى لَنَا نَبِيُّنَا نَفْسَهُ ـ بِأَبِي هوَ وَنَفْسِي لَهُ الْفِدَاءُ ـ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقُ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَقَالَ: «مَرْحَبَاً بِكُمْ، حَيَّاكُمُ اللهُ بِالسَّلَامِ، رَحِمَكُمُ اللهُ، حَفِظَكُمُ اللهُ، جَبَرَكُمُ اللهُ، رَزَقَكُمُ اللهُ، وَقَاكُمُ اللهُ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَأُوصِي اللهَ بِكُمْ، وَأَسْتَخْلِفُ عَلَيْكُمْ، وَأُحَذِّرُكُمُ اللهَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ لِي وَلَكُمْ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وَقَالَ: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى أَجَلُكَ؟

قَالَ: «دَنَا الْفِرَاقُ، وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللهِ، وَإِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ يُغَسِّلُكَ؟

قَالَ: «رِجَالٌ مِنْ أَهْلِي، الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَفِيمَ نُكَفِّنُكَ؟

قَالَ: «فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ، أَوْ ثِيَابِ حَضَرٍ أَوْ حُلَّةٍ يَمَانِيَةٍ».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ؟ وَبَكَيْنَا وَبَكَى.

فَقَالَ: «مَهْلَاً رَحِمَكُمُ اللهُ، وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرَاً، إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي، فَضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا، عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي هَذَا، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً، فَأَوَّلُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ خَلِيلِي وَحَبِيبِي جِبْرِيلُ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ وَجُنُودُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَجْمَعِهَا، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجَاً فَوْجَاً، فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً، وَلَا تُؤْذُونِي بِتَزْكِيَةٍ، ولا صَيْحَةٍ، وَلَا رَنَّةٍ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي وَنِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدُ، وَمَنْ غَابَ عَنِّي مِنْ أَصْحَابِي، فَأَبْلِغُوهُ عَنِّي السَّلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَكُمْ فِي دِينِي مِنْ إِخْوَانِي، فَأَبْلِغُوهُ عَنِّي السَّلَامَ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُنِي عَلَى دِينِي من اليَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

قُلْنَا: فَمَنْ يُدْخِلُكَ قَبْرَكَ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلِي مَعَ مَلَائِكَةٍ كَثِيرَةٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ».

اِشْتَدَّ الأَلَمُ والوَجَعُ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: واشْتَدَّ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأَلَمُ والوَجَعُ، وهوَ يَطُوفُ على نِسَائِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ تَحْقِيقَاً للعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وكَانَ يَسْأَلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَرَضِهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدَاً؟».

روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، يَقُولُ: «أَيْنَ أَنَا غَدَاً؟ أَيْنَ أَنَا غَدَاً؟».

يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي. السَّحَرُ: الرِّئَةُ، أيْ: مَاتَ هوَ مُسْتَنِدٌ إلى صَدْرِهَا رَضِيَ اللهُ عَنها.

ثُمَّ قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْطَانِيهِ، فَقَضِمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي.

«لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ»:

أيُّها الإخوة الكرام: في اليَوْمِ الذي قُبِضَ فِيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَفَقَّدَ السَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، فَدَعَاهَا، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ مُهَرْوِلَةً.

روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَرْحَبَاً بِابْنَتِي».

ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثَاً فَبَكَتْ.

فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟

ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثَاً فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحَاً أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ.

فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهَا.

فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقَاً بِي». فَبَكَيْتُ.

فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ». فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ.

وروى ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ».

أيُّها الإخوة الكرام: وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هذِهِ الحَالِ دَعَا الحَسَنَ والحُسَيْنَ فَقَبَّلَهُمَا، وَأَوْصَى بِهِمَا خَيْرَاً، وَدَعَا أَزْوَاجَهُ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ.

وَطَفِقَ الوَجَعُ يَشْتَدُّ وَيَزِيدُ، وَقَد ظَهَرَ أَثَرُ السُّمِّ الذي أَكَلَهُ بِخَيْبَرَ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ». عِرْقٌ في الظَّهْرِ، أو عِرْقُ مُسْتَبْطِنِ الْقَلْبِ.

وَقَد طَرَحَ خَمِيصَةً لَهُ على وَجْهِهِ، فإذا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عن وَجْهِهِ، فَقَالَ ـ وهوَ كَذَلِكَ ـ وَكَانَ هذا آخِرَ مَا تَكَلَّمَ وَأَوْصَى بِهِ النَّاسَ: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ـ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا ـ لا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ العَرَبِ».

وَأَوْصَى النَّاسَ فَقَالَ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» كَرَّرَ ذَلِكَ مِرَارَاً.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: عَجِيبٌ أَمْرُنَا، نَعْلَمُ بِأَنَّ المَوْتَ حَقٌّ، وأَنَّهُ نِهَايَةُ الجَمِيعِ، ومَعَ ذلكَ نُصِرُّ على بَعْضِ المُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، لَيْسَ العَيْبُ أَنْ نُخْطِئَ، ولَكِنَّ العَيْبَ الاسْتِمْرَارُ على الخَطَأِ، أَيُّنَا لا يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ على خَيْرٍ؟ هَلْ يُرِيدُ أَحَدٌ أَنْ يَمُوتَ على شَرٍّ؟ فِرْعَوْنُ الذي قَالَ مَا قَالَ، أَرَادَ أَنْ يَمُوتَ على خَيْرٍ في ظَنِّهِ، عِنْدَمَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ، فَقَالَ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرَاً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: المَوْتُ حَقٌّ، ولَوْ كَانَ الأَمْرُ يَنْتَهِي عِنْدَ المَوْتِ لاسْتَرَحْنَا كَثِيرَاً، ولَكِنْ بَعْدَ المَوْتِ بَعْثٌ وحَشْرٌ ونَشْرٌ، ثمَّ حِسَابٌ، وفي الحِسَابِ سُؤَالٌ، والسُّؤَالُ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكُ المُلُوكِ، وجَبَّارِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ.

أيُّها الإخوة الكرام: رَحِمَ اللهُ تعالى الفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ إِذْ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ الفُضَيْلُ عَن عُمُرِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: سِتُّونَ سَنَةً.

قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إلى رَبِّكَ، يُوشِكُ أَنْ تَبلُغَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

فَقَالَ الفُضَيْلُ: أَتَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ؟ تَقُولُ: أَنَا للهِ عَبْدٌ وَإِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَمَن عَلِمَ أَنَّهُ للهِ عَبْدٌ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمَن عَلِمَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ، وَمَن عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ، فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالِ جَوَابَاً.

فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الحِيلَةُ؟

قَالَ: يَسِيرَةٌ.

قَالَ: مَا هِيَ؟

قَالَ: تُحسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغفَرُ لَكَ مَا مَضَى، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ، أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَبِمَا بَقِيَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لا يَجْعَلَنَا من النَّادِمِينَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ، وأَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَنَا من النَّاطِقِينَ بالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الغَرْغَرَةِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 29/رمضان /1435هـ، الموافق: 16/تموز / 2015م