217ـ مع الحبيب المصطفى: بناء المسجد النبوي الشريف

 

مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

217ـ بناء المسجد النبوي الشريف

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لَيْسَ هَمُّ الأُمَّةِ أَنْ تَعِيشَ هذهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِأَيِّ أُسْلُوبٍ من الأَسَالِيبِ، أَو تَخُطَّ طَرِيقَهَا في الحَيَاةِ إلى أَيِّ جِهَةٍ من الجِهَاتِ، وأَنَّهَا إِذَا وَجَدَتِ القُوتَ والزَّادَ فَقَد أَرَاحَتْ واسْتَرَاحَتْ.

الأُمَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ صَاحِبَةُ عَقِيدَةٍ رَاسِخَةٍ حَدَّدَتْ صِلَتَهَا مَعَ اللهِ تعالى، وأَوْضَحَتْ نَظْرَتَهَا إلى هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، ونَظَّمَتْ شُؤُونَهَا في الدَّاخِلِ والخَارِجِ على النَّحْوِ الذي يُرْضِي اللهَ تَبَارَكَ تعالى، ويَضْمَنُ لَهَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.

لَيْسَ هَمُّ هذهِ الأُمَّةِ أَنْ تَحْيَا فَحَسْبُ، بَلْ هَمُّ هذهِ الأُمَّةِ سَلامَةُ الدِّينِ والدُّنْيَا، والحِرْصُ على العِرْضِ، وسَلامَةُ العُقُولِ والأَبْدَانِ، وتَرَابُطُ النَّاسِ مَعَ بَعْضِهِمُ البَعْضِ، والفَوْزُ بِمَرْضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا هَاجَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ والصَّحْبُ الكِرَامُ، لَمْ يَكُنْ هَدَفَهُم ابْتِغَاءُ ثَرَاءٍ وغِنَىً، وابْتِغَاءُ سِيَادَةٍ ورِيَادَةٍ، وكذلكَ الأَنْصَارُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم الذينَ اسْتَقْبَلُوا المُهَاجِرِينَ ونَاصَبُوا قَوْمَهُمُ العِدَاءَ لَمْ يَكُنْ هَدَفَهُم أَنْ يَعِيشُوا كَيْفَمَا اتُّفِقَ إِنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعَاً ـ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارَ ـ هَمُّهُم أَنْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ القُرْآنِ، وهَدْيِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأَنْ يَحْصُلُوا على مَرْضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومَرْضَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأَنْ يُحَقِّقُوا الغَايَةَ التي خُلِقُوا من أَجْلِهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنْطَلَقِ، اِنْطَلَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِوَضْعِ الدَّعَائِمِ التي لا بُدَّ مِنْهَا لِتَحْقِيقِ الغَايَةِ التي خُلِقَ من أَجْلِهَا الإِنْسَانُ.

أولاً: صِلَةُ الأُمَّةِ باللهِ تعالى.

ثانياً: صِلَةُ الأُمَّةِ المُؤْمِنَةِ مَعَ بَعْضِهَا البَعْضِ.

ثالثاً: صِلَةُ الأُمَّةِ بالآخَرِينَ الذينَ لا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ.

بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من أَجْلِ صِلَةِ الأُمَّةِ باللهِ تعالى، قَامَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَولاً بِبِنَاءِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ.

فَأَوَّلُ خُطْوَةٍ خَطَاهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هِيَ إِقَامَةُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ الذي بَرَكَتْ فِيهِ نَاقَتُهُ، فَأَمَرَ بِبِنَاءِ هذا المَسْجِدِ، واشْتَرَاهُ من غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ كَانَا يَمْلِكَانِهِ، وَأَسْهَمَ في بِنَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ والحِجَارَةَ وَيَقُولُ:

«اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخِرَه   ***   فَاغْفِرْ للأَنْصَارِ والمُهَاجِرَه»

وَكَانَ يَقُولُ:

«هذا الحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَر   ***   هذا أَبَرُّ رَبَّنَا وأطْهَر»

وَكَانَ ذلكَ مِمَّا يَزِيدُ نَشَاطَ الصَّحَابَةِ في العَمَلِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُم لَيَقُولُ:

لَئِنْ قَعَدْنَا والنَّبِيُّ يَعْمَلُ   ***   لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ

وَكَانَ في ذلكَ المَكَانِ قُبُورٌ للمُشْرِكِينَ، وَكَانَ فِيهِ خَرِبٌ وَنَخْلٌ وَشَجَرَةٌ من غَرْقَد، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وبالخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وبالنَّخْلِ والشَّجَرَةِ فَقُطِعَتْ، وَصُفَّتْ في قِبْلَةِ المَسْجِدِ، وَكَانَت القِبْلَةُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَجُعِلَتْ عَضَادَتَاهُ من حِجَارَةٍ، وَأُقِيمَتْ حِيطَانُهُ من اللَّبِنِ والطِّينِ، وَجُعِلَ سَقْفُهُ من جَرِيدِ النَّخْلِ، وَعُمُدُهُ الجُذُوعُ، وَفُرِشَتْ أَرْضُهُ بالرِّمَالِ والحَصْبَاءِ، وَجُعِلَتْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ، وَطُولُهُ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ إلى مُؤَخَّرِهِ مِائَةُ ذِرَاعٍ، والجَانِبَانِ مِثْلُ ذلكَ أَو دُونَهُ، وَكَانَ أَسَاسُهُ قَرِيبَاً من ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.

وَبَنَى بِجَانِبِهِ بُيُوتَاً بالحَجَرِ واللَّبِنِ، وَسَقَفَهَا بالجَرِيدِ والجُذُوعِ، وَهِيَ حُجُرَاتُ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَبَعْدَ تَكَامُلِ الحُجُرَاتِ انْتَقَلَ إِلَيْهَا من بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ.

أيُّها الإخوة الكرام: فَأَوَّلُ عَمَلٍ قَامَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هُوَ بِنَاءُ المَسْجِدِ، لأَنَّ المَسْجِدَ هُوَ أَهَمُّ رَكِيزَةٍ في بِنَاءِ المُجْتَمَعِ الإِسْلامِيِّ.

وبِنَاءُ المَسْجِدِ عُنْوَانٌ على الإِيمَانِ باللهِ تعالى واليَوْمِ الآخِرِ، قَالَ تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.

وروى الإمام البخاري عَنْ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى ـ فِيهِ التَّأَهُّبُ لِإِلْقَاءِ العِلْمِ وَتَرْكِ التَّحْدِيثِ في حَالَةِ المِهْنَةِ إِعْظَامَاً للحَدِيثِ ـ ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا، حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ ـ جَاءَ بِصِيغَةِ المُضَارِعِ فِي مَوضِعِ المَاضِي مُبَالَغَةً لاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ فِي نَفسِ السَّامِعِ كَأنَّهُ يُشَاهِدُ ـ، وَيَقُولُ: «وَيْحَ عَمَّارٍ ـ هِيَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ ـ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ».

قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ باللهِ مِن الْفِتَنِ.

وروى البيهقي عَن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ المَسْجِدَ، جَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارُ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ، عَنْهُ لَبِنَةً، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، للنَّاسِ أَجْرٌ، وَلَكَ أَجْرَانِ، وَآخِرُ زَادِكَ شَرْبَةٌ من لَبَنٍ، وَتَقْتُلُكُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ».

خَطَبَ النَّاسَ على جِذْعٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: بَنَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ، ولَمْ يَجْعَلْ فِيهِ مِنْبَرَاً، بَلْ كَانَ يَخْطُبُ على جِذْعٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وكَانَ الجِذْعُ عِنْدَ مُصَلَّاهُ في الحَائِطِ القِبْلِيِّ، فَلَمَّا اتُّخِذَ المِنْبَرُ، وعَدَلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِيَخْطِبَ عَلَيْهِ، وتَجَاوَزَ ذلكَ الجِذْعَ، خَارَ ذلكَ الجِذْعُ وحَنَّ حَنِينَ النُّوقِ العِشَارِ.

روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ وَتَحَوَّلَ إِلَيْهِ حَنَّ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ.

قَالَ: «وَلَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

أيُّها الإخوة الكرام: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الخَشَبَةُ تَحِنُّ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ شَوْقَاً إِلَيْهِ لِمَكَانِهِ من اللهِ عزَّ وجلَّ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَنْ تَشْتَاقُوا إلى لِقَائِهِ.

أَوَّلُ خُطْبَةٍ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ:

أيُّها الإخوة الكرام: روى البيهقي عَن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بالمَدِينَةِ أَنَّهُ قَامَ فِيهِم فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعَلَّمُنَّ واللهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالَاً، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ؟ فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَلَيَنْظُرَنَّ يَمِينَاً وَشِمَالَاً، فَلَا يَرَى شَيْئَاً، ثمَّ لَيَنْظُرَنَّ قُدَّامَهُ فلا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ من النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، إلَى سَبْعِ مِئَةِ ضَعْفٍ، وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وعلى رَسُولِ اللهِ».

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد تَمَّ بِنَاءُ المَسْجِدِ في حُدُودِ البَسَاطَةِ، فِرَاشُهُ الرِّمَالُ والحَصْبَاءُ، وسَقْفُهُ جَرِيدُ النَّخْلِ، وأَعْمِدَتُهُ الجُذُوعُ، ورُبَّمَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَأَوْحَلَتْ أَرْضَهُ.

هذا البِنَاءُ المُتَوَاضِعُ هُوَ الذي رَبَّى رِجَالاً فَكَانُوا كَالمَلائِكَةِ الكِرَامِ، رَبَّى رِجَالاً كَانُوا مُؤَدِّبِينَ للجَبَابِرَةِ، وكَانُوا مُلُوكَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، رَبَّى رِجَالاً انْصَرَفُوا عَن زَخْرَفَةِ المَسَاجِدِ وتَشْيِيدِهَا إلى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِم وتَقْوِيمِهَا، فَكَانُوا أَمْثِلَةً صَحِيحَةً للإِسْلامِ.

أيُّها الإخوة الكرام: الغَايَةُ الحَقِيقِيَّةُ من بِنَاءِ المَسَاجِدِ أَنْ تَكُونَ أَسْوَاقَاً لِتِجَارَةِ الآخِرَةِ، لا لِتِجَارَةِ الدُّنْيَا، وتُجَّارُ الآخِرَةِ هُمْ عُمَّارُ المَسَاجِدِ، كَمَا أَنَّ تُجَّارَ الدُّنْيَا عُمَّارُ الأَسْوَاقِ.

أيُّها الإخوة الكرام: المَسَاجِدُ في الإِسْلامِ أَسْوَاقُ الآخِرَةِ، بَل هيَ أَسْوَاقُ الجَنَّةِ، ومَيَادِينُ التِّجَارَةِ مَعَ اللهِ تعالى، لأَنَّهَا أَسْوَاقُ الأَرْوَاحِ المُؤْمِنَةِ، والقُلُوبِ المُطْمَئِنَّةِ.

المَسَاجِدُ في إِسْلامِنَا هيَ أَمَاكِنُ لِتَرْبِيَةِ النُّفُوسِ وتَهْذِيبِهَا، وفِيهَا تُصْرَفُ الأَدْوِيَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، ويُعَالَجُ مَرْضَى القُلُوبِ والنُّفُوسِ، لذلكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ للمَسَاجِدِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مَكَانَةٌ سَامِيَةٌ، ومَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، وحَصَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَلِيقُ بِهَا، وكَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ، وهيَ بُيُوتُ مَالِكِ المُلْكِ، ومَلِكِ المُلُوكِ؟

إِنَّ مُلُوكَ الدُّنيَا لا يَرْضُوْنَ ولا يَسْمَحُونَ أَنْ يُسَاءَ الأَدَبُ في بَلاطِهِم وقُصُورِهِم وبُيُوتِهِم، ولا أَنْ تُرْفَعَ الأَصْوَاتُ في حَضْرَتِهِم، ولا أَنْ يَكْثُرَ الضَّجِيجُ في أَمَاكِنِ تَوَاجُدِهِم، ولا أَنْ تَحْدُثَ حَرَكَةٌ أو لَغَظٌ غَيْرُ مَرْضِيَّينِ عِنْدَهُم.

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا كَانَتِ المَسَاجِدُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَسْوَاقَاً لِتِجَارَةِ الآخِرَةِ، تَخَرَّجَ مِنهَا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، تَخَرَّجَ مِنهَا العَبَادِلَةُ الأَرْبَعَةُ، عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، رَضِيَ اللهُ عَنهُم جَمِيعَاً، تَخَرَّجَ مِنهَا المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ، والتَّابِعُونَ، والأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، والفُقَهَاءُ، وأَهْلُ التَّقْوَى والصَّلاحِ، والعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وكَانُوا رَضِيَ اللهُ عَنهُم رُعَاةً للأُمَمِ، بِبَرَكَةِ بُيُوتِ اللهِ عزَّ وجلَّ التي رَبَطَتْهُم باليَوْمِ الآخِرِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لَكِنْ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ اليَوْمَ أَنَّنَا عَمَرْنَا مَسَاجِدَنَا بالِبِنَاءِ، ولَمْ نَعْمُرْهَا بِذِكْرِ اللهِ تعالى، وتِلاوَةِ القُرْآنِ، وقِرَاءَةِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، ولَمْ نَعْمُرْهَا بِرِيَاضِ الجَنَّةِ.

لقد عَمَرْنَا مَسَاجِدَنَا اليَوْمَ بالزَّخَارِفِ والأَلْوَانِ، عَمَرْنَاهَا لِنَتَبَاهَى بِهَا، فَأَصْبَحَتْ مَسَاجِدُنَا اليَوْمَ مَظَاهِرَ، وأَصْبَحَتْ آيَاتٍ في حُسْنِ البِنَاءِ، وَرَوْعَةِ الهَنْدَسَةِ، تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ، وتَسُرُّهُمْ في مَظْهَرِهَا، إلا أَنَّهَا في مَخْبَرِهَا وجَوْهَرِهَا لَمْ تُؤَدِّ الرِّسَالَةَ، ولَمْ تُحَقِّقْ هَدَفَاً، فَعُقِمَ جِيلُهَا، وسَكَتَتْ أَلْسِنَتُهَا، واخْتَفَتْ حَلَقَاتُهَا، وانْطَفَأَ نُورُهَا، وانْعَدَمَ دَوْرُهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد ضَعُفَتِ الأُمَّةُ ومَرِضَتْ، لأَنَّهَا اهْتَمَّتْ بالمَظْهَرِ على حِسَابِ الجَوْهَرِ، وبالقُشُورِ على حِسَابِ اللُّبَابِ، وبالكَمِّ على حِسَابِ الكَيْفِ، أَفَلَ نَجْمُ الأُمَّةِ، ودَبَّ فِيهَا الوَهَنُ والخَوَرُ والعَجَزُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرُدَّنَا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 9/ذو القعدة /1436هـ، الموافق: 24/آب / 2015م