39ـ كلمات في مناسبات: هكذا يكون القضاة

 

 39ـ كلمات في مناسبات: هكذا يكون القضاة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: القَضَاءُ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، ولِخُطُورَةِ هذهِ المُهِمَّةِ قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِيَاً بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وروى أبو داود عَن ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ».

أيُّها الإخوة الكرام: وفي هذهِ الأُمَّةِ رِجَالٌ عُظَمَاءُ في كُلِّ مَيْدَانٍ، وفي سَائِرِ العُصُورِ، لِيَكُونُوا حُجَّةً على الآخَرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنَّ التَّعَرُّفَ على سِيَرِ هؤلاءِ العِظَامِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ في حَيَاةِ المُسْلِمِ لَعَلَّهُ يَتَأَثَّرُ بالشَّخْصِيَّاتِ الكَامِلَةِ.

شُرَيْحٌ القَاضِي وسَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: من الرِّجَالِ العِظَامِ الذينَ رَبَّاهُمُ الإِسْلامُ في مَنْصِبِ القَضَاءِ شُرَيْحٌ القَاضِي، الذي كَانَ مَعْرُوفَ المَقَامِ في المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وصَاحِبَ المَنْزِلَةِ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ من الصَّحَابَةِ الكِرَامِ والتَّابِعِينَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وكَانَ أَصْحَابُ الفَضْلِ وأَهْلُ السَّابِقَةِ من الصَّحْبِ الكِرَامِ يُقَدِّرُونَ لِشُرَيْحِ بْنِ الحَارِثِ فِطْنَتَهُ الحَادَّةَ، وخُلُقَهُ الرَّفِيعَ.

أيُّها الإخوة الكرام: اِبْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَرَسَاً من رَجُلٍ من الأَعْرَابِ ونَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ ومَضَى بِهِ.

لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بالفَرَسِ طَوِيلاً حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ عَطَبٌ عَاقَهُ عَن مُوَاصَلَةِ الجَرْيِ، فَانْثَنَى بِهِ عَائِدَاً من حَيْثُ انْطَلَقَ، وقَالَ للرَّجُلِ: خُذْ فَرَسَكَ، فَإِنَّهُ مَعْطُوبٌ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: لا آخُذُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وقَد بِعْتُهُ مِنْكَ سَلِيمَاً صَحِيحَاً.

فَقَالَ عُمَرُ: اِجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حَكَمَاً.

فَقَالَ الرَّجُلُ: يَحْكُمُ بَيْنَنَا شُرَيْحُ بْنُ الحَارِثِ الكِنْدِيُّ.

فَقَالَ عُمَرُ: رَضِيتُ بِهِ.

اِحْتَكَمَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وصَاحِبُ الفَرَسِ إلى شُرَيْحٍ، فَلَمَّا سَمِعَ شُرَيْحٌ مَقَالَةَ الأَعْرَابِيِّ؛ اِلْتَفَتَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ الفَرَسَ سَلِيمَاً يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ.

فَقَالَ شُرَيْحٌ: اِحْتَفِظْ بِمَا اشْتَرَيْتَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أو رُدَّ كَمَا أَخَذْتَ.

فَنَظَرَ عُمَرَ إلى شُرَيْحٍ مُعْجَبَاً، وقَالَ: وَهَلِ القَضَاءُ إلا هكذا؟.....

قَوْلٌ فَصْلٌ، وحُكْمٌ عَدْلٌ.

فَبَعَثَهُ إلى الكُوفَةِ قَاضِيَاً.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الذُّرْوَةَ في تَحْقِيقِ العَدْلِ في وَاقِعِ الأَرْضِ، بِصُورَةٍ لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً من سَابِقٍ.

أيُّها الإخوة الكرام: شُرَيْحٌ القَاضِي ظَلَّ يَقْضِي بَيْنَ المُسْلِمِينَ نَحْوَاً من سِتِّينَ عَامَاً مُتَتَابِعَةً من غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وتَعَاقَبَ على إِقْرَارِهِ في مَنْصِبِهِ كُلٌّ من سَيِّدِنَا عُمَرَ وسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وسَيِّدِنَا عَلِيٌّ وسَيِّدِنَا مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم جَمِيعَاً.

كَمَا أَقَرَّهُ على ذلكَ مَن جَاءَ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ من خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى طَلَبَ إِعْفَاءَهُ من مَنْصِبِهِ زَمَنَ وِلايَةِ الحَجَّاجِ، لأَنَّهُ بَلَغَ السَّابِعَةَ بَعْدَ المِئَةِ من حَيَاتِهِ المَدِيدَةِ الرَّشِيدَةِ الحَافِلَةِ بالمَفَاخِرِ والمَآثِرِ، فَكَانَ عَظِيمَاً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ عَظِيمَاً من القُضَاةِ.

لا بُدَّ من شَاهِدَيْنِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: من طَرَائِفِ هذهِ الشَّخْصِيَّةِ العَظِيمَةِ، رَجُلٌ يَهُودِيٌّ سَرَقَ دِرْعَاً لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

لَمَّا تَوَجَّهَ عَلِيٌّ إلى حَرْبِ مُعَاوِيَةَ افْتَقَدَ دِرْعَاً لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الحَرْبُ وَرَجَعَ إلى الكُوفَةِ أَصَابَ الدِّرْعَ في يَدِ يَهُودِيٍّ يَبِيعُهَا في السُّوقِ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا يَهُودِيُّ، هذهِ الدِّرْعُ دِرْعِي، لَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ.

فَقَالَ اليَهُودِيُّ: دِرْعِي وفي يَدِي.

فَقَالَ عَلِيٌّ: نَصِيرُ إلى القَاضِي، فَتَقَدَّمَا إلى شُرَيْحٍ، فَجَلَسَ عَلِيٌّ إلى جَنْبِ شُرَيْحٍ، وَجَلَسَ اليَهُودِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ.

فَقَالَ عَلِيٌّ: لَولا أَنَّ خَصْمِي ذِمِّيٌّ لاسْتَوَيْتُ مَعَهُ في المَجْلِسِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «لا تُسَاوُوهُم في المَجَالِسِ».

فَقَالَ شُرَيْحٌ: قُلْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ هذهِ الدِّرْعَ التي في يَدِ اليَهُودِيِّ دِرْعِي لَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ.

فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَا تَقُولُ يَا يَهُودِيُّ؟

فَقَالَ: دِرْعِي وفي يَدِي.

فَقَالَ شُرَيْحٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بَيِّنَةٌ.

قَالَ: نَعَم، قُنْبُرُ والحَسَنُ يَشْهَدَانِ أَنَّ الدِّرْعَ دِرْعِي.

قَالَ: شَهَادَةُ الابْنِ لا تَجُوزُ للأَبِ.

فَقَالَ: رَجُلٌ من أَهْلِ الجَنَّةِ لا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

فَقَالَ اليَهُودِيُّ: أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ قَدَّمَنِي إلى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ قَضَى عَلَيهِ، أَشْهَدُ أَنَّ هذا لَلْحَقُّ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ؛ وَأَنَّ الدِّرْعَ دِرْعُكَ، كُنْتَ رَاكِبَاً عَلَى جَمَلِكَ الأَوْرَقِ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إلى صِفِّينَ، فَوَقَعَتْ مِنْكَ لَيْلَاً فَأَخَذْتُهَا.

وَلَكِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: من رَوَائِعِ هذهِ الشَّخْصِيَّةِ العَظِيمَةِ، أَنَّ وَلَدَهُ قَالَ لَهُ يَوْمَاً: يَا أَبَتِ، إِنَّ بَيْنِي وبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةً، فَانْظُرْ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الحَقُّ لِي قَاضَيْتُهُم، وإِنْ كَانَ لَهُم صَالَحْتُهُم؛ ثمَّ قَصَّ عَلَيهِ قِصَّتَهُ.

فَقَالَ لَهُ: اِنْطَلِقْ فَقَاضِهِم، فَمَضَى إلى خُصُومِهِ، ودَعَاهُم إلى المُقَاضَاةِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ، ولمَّا مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيْ شُرَيْحٍ، قَضَى لَهُم على وَلَدِهِ.

فَلَمَّا رَجَعَ شُرَيْحٌ وابْنُهُ إلى البَيْتِ قَالَ الوَلَدُ لأَبِيهِ: فَضَحْتَنِي يَا أَبَتِ، واللهِ لَو لَمْ أَسْتَشِرْكَ لَمَا لُمْتُكَ.

قَالَ شُرَيْحٌ: يَا بُنَيَّ، واللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ من مِلْءِ الأَرْضِ من أَمْثَالِهِم، وَلَكِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنكَ.

لَقَد خَشِيتُ أَنْ أُخْبِرَكَ بِأَنَّ الحَقَّ لَهُم، فَتُصَالِحَهُم صُلْحَاً يُفَوِّتُ عَلَيهِم بَعْضَ حَقِّهِم، فَقُلْتُ لَكَ مَا قُلْتُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لا يَكُونُ الإِنسَانُ عَظِيمَاً في أَيِّ مَيْدَانٍ إلا إذا كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وهذا هوَ السِّرُّ الذي جَعَلَ شُرَيْحَاً القَاضِي رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَظِيمَاً.

لَقَد كَانَ شِعَارُهُ في مَجَالِسِ قَضَائِهِ قَوْلَهُ:

غَدَاً سَيَعْلَمُ الظَّالِمُ مَن الخَاسِرُ؟

إِنَّ الظَّالِمَ يَنْتَظِرُ العِقَابَ، وإِنَّ المَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصَفَةَ، وإِنِّي أَحْلِفُ اللهِ، أَنَّهُ مَا من أَحَدٍ تَرَكَ شَيْئَاً للهِ عزَّ وجلَّ ثمَّ أَحَسَّ بِفَقْدِهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَقَامَ شُرَيْحٌ قَاضِيَاً سِتِّينَ عَامَاً، فَمَا حَافَ على أَحَدٍ، ولا جَارَ عن حَقٍّ، ولا مَيَّزَ بَيْنَ مَلِكٍ وسُوقَةٍ، رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً وَاسِعَةً.

اللَّهُمَّ هَيِّءْ لَنَا من أَمْرِنَا رَشَدَاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 16/رمضان /1436هـ، الموافق: 3/تموز/ 2015م

أخوكم أحمد النعسان

يَرجُوكُم دَعوَةً صَالِحَةً