40ـ كلمات في مناسبات: هكذا يكون التجار

 

 40ـ كلمات في مناسبات: هكذا يكون التجار

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الكَلامَ عَنْ عُظَمَاءِ هذهِ الأُمَّةِ، وكَشْفَ السِّتَارِ عن الصَّفَحَاتِ النَّاصِعَةِ التي سَطَّرُوهَا وَاجِبٌ مُحَتَّمٌ عَلَينَا في هذهِ الآوِنَةِ، لأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثَاً يُفْتَرَى﴾.

إِنَّ عُظَمَاءَ الأُمَّةِ وخَاصَّةً سَلَفَهَا وَرَدُوا المَاءَ عَذْبَاً زُلالاً، وفَتَحُوا القُلُوبَ بالقُرْآنِ العَظِيمِ، زَهِدُوا في الحَيَاةِ الدُّنيَا، ولَمْ يَجْعَلُوا هَمَّهُم حَشْوَ البُطُونِ، ولا لُبْسَ الحَرِيرِ، ولا الإِغْرَاقَ في النِّعَمِ، هَمُّهُمُ الأَكْبَرُ إِظْهَارُ هذا الدِّينِ بِأَبْهَى صُورَةٍ وأَجْمَلِهَا، وقَصْدُهُمُ الأَسْمَى نَيْلُ رِضْوَانِ اللهِ تعالى.

فَمَن كَانَ مُتَأَسِّيَاً فَلْيَتَأَسَّ بهؤلاءِ الرِّجَالِ العِظَامِ، فَهُم أَبَرُّ هذهِ الأُمَّةِ قُلُوبَاً، وأَعْمَقُهَا عِلْمَاً، وأَقَلُّهَا تَكَلُّفَاً، وأَقْوَمُهَا هَدْيَاً، وأَحْسَنُهَا حَالاً.

أيُّها الإخوة الكرام: في عُظَمَاءِ هذهِ الأُمَّةِ قُدْوَةٌ وأُسْوَةٌ صَالِحَةٌ وحَسَنَةٌ لِكُلِّ شَرَائِحِ المُجْتَمَعِ، والذينَ من جُمْلَتِهِمُ التُّجَّارُ، فإلى كُلِّ تَاجِرٍ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَشْمُولاً بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. عَلَيهِ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئَاً عَن عَظِيمٍ من عُظَمَاءِ هذهِ الأُمَّةِ، الذي عَمَّ ذِكْرُهُ أَرْجَاءَ المَعْمُورَةِ سَيِّدُنَا الإِمَامُ الأَعْظَمُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَان رَحِمَهُ اللهُ تعالى، الذي قَالَ عَنهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: لَمْ أَرَ أَعْقَلَ ولا أَفْضَلَ ولا أَرْوَعَ من أَبِي حَنِيفَةَ.

وقَالَ عَنهُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: النَّاسُ في الفِقْهِ عِيَالٌ على أَبِي حَنِيفَةَ.

يَرْحَمُ اللهُ أَبَا حَنِيفَةَ فقد خَدَعَنَا:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَرِيمَ النَّفْسِ، يَأْكُلُ من كَسْبِ يَمِينِهِ في زَمَنٍ أَغْدَقَ فِيهِ الأُمَوِيُّونُ والعَبَّاسِيُّونَ على أَصْحَابِ المَوَاهِبِ إِغْدَاقَاً حَتَّى صَارَ رِزْقُهُم يَأْتِيهِم رَغَدَاً من كُلِّ مَكَانٍ، وهُم لا يَشْعُرُونَ، فَأَبَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى إلا أَنْ يَأْكُلَ من كَسْبِ يَمِينِهِ، وأَنْ تَكُونَ يَدُهُ هيَ العُلْيَا دَائِمَاً.

دَعَاهُ المَنْصُورُ ذَاتَ مَرَّةٍ إلى زِيَارَتِهِ، فَلَمَّا صَارَ عِنْدَهُ بَالَغَ في إِعْظَامِهِ وإِكْرَامِهِ والتَّرْحِيبِ بِهِ، وأَدْنَى مَجْلِسَهُ مِنْهُ، وجَعَلَ يُسَائِلُهُ عَن كَثِيرٍ من شُؤُونِ الدِّينِ والدُّنيَا.

فَلَمَّا أَرَادَ الانْصِرَافَ، دَفَعَ إِلَيهِ بِكِيسٍ فِيهِ ثَلاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ـ على مَا كَانَ مَعْرُوفَاً من إِمْسَاكِ المَنْصُورِ ـ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنِّي غَرِيبٌ في بَغْدَادَ، ولَيْسَ لهذا المَالِ مَوْضِعٌ عِنْدِي، وإِنِّي لأَخْشَى عَلَيهِ، فَاحْفَظْهُ لِي في بَيْتِ المَالِ حَتَّى إذا احْتَجْتُهُ طَلَبْتُهُ مِنْكَ.

فَأَجَابَهُ المَنْصُورُ إلى رَغْبَتِهِ، غَيْرَ أَنَّ الحَيَاةَ لَمْ تَطُلْ بَعْدَئِذٍ بِأَبِي حَنِيفَةَ.

فَلَمَّا وَافَاهُ الأَجَلُ وُجِدَتْ في بَيْتِهِ وَدَائِعُ للنَّاسِ تَزِيدُ على أَضْعَافِ هذا المَبْلَغِ، فَلَمَّا سَمِعَ المَنْصُورُ بذلكَ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا حَنِيفَةَ فقد خَدَعَنَا، وأَبَى أَنْ يَأْخُذَ شَيْئَاً مِنَّا، وتَلَطَّفَ في رَدِّنَا.

هذهِ أَرْبَاحُ بَضَائِعِكُم أَجْرَاهَا اللهُ لَكُم على يَدَيَّ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى تَاجِرَاً صَدُوقَاً، وكَانَ مِثَالاً رَائِعَاً لِكُلِّ تَاجِرٍ صَدُوقٍ أَرَادَ المَعِيَّةَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ.

كَانَ لَهُ مَتْجَرٌ مَعْرُوفٌ يَقْصِدُهُ النَّاسُ، فَيَجِدُونَ فِيهِ الصِّدْقَ في المُعَامَلَةِ، والأَمَانَةَ في الأَخْذِ والعَطَاءِ، ولا رَيْبَ فِي أَنَّهُم كَانُوا يَجِدُونَ فِيهِ الذَّوْقَ الرَّفِيعَ أَيْضَاً.

ولقد كَانَتْ تِجَارَتُهُ تَدُرُّ عَلَيهِ خَيْرَاً وَفِيرَاً، وتَحْبُوهُ من فَضْلِ اللهِ مَالاً كَثِيرَاً.

فَكَانَ يَأْخُذُ المَالَ من حِلِّهِ، ويَضَعُهُ في مَحَلِّهِ.

فلقد عُرِفَ عَنهُ أَنَّهُ كُلَّمَا حَالَ عَلَيهِ الحَوْلُ، أَحْصَى أَرْبَاحَهُ من تِجَارَتِهِ، واسْتَبْقَى مِنهَا مَا يَكْفِيهِ لِنَفَقَتِهِ، ثمَّ يَشْتَرِي بالبَاقِي حَوَائِجَ الفُقَرَاءِ والمُحَدِّثِينَ، والفُقَهَاءِ وطُلَّابِ العِلْمِ، وأَقْوَاتَهُم وكِسْوَتَهُم.

ويُخَصِّصُ لِكُلٍّ مِنهُم مَبْلَغَاً من النَّقْدِ العَيْنِ، ويَدْفَعُ ذلكَ كُلَّهُ إِلَيهِم ويَقُولُ:

هذهِ أَرْبَاحُ بَضَائِعِكُم أَجْرَاهَا اللهُ لَكُم على يَدَيَّ، واللهِ مَا أَعْطَيْتُكُم من مَالِي شَيْئَاً، وإِنَّمَا هوَ فَضْلُ اللهِ عَلَيَّ فِيكُم، فَمَا في رِزْقِ اللهِ حَوْلٌ لأَحَدٍ غَيْرِ اللهِ.

وما كُنْتُ لأَرْبَحَ على جَلِيسِي:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد شَرَّقَتْ أَخْبَارُ جُودِ أَبِي حَنِيفَةَ وسَمَاحَتِهِ وغَرَّبَتْ، وخَاصَّةً مَعَ جُلَسَائِهِ وأَصْحَابِهِ.

من ذلكَ أَنَّ أَحَدَ جُلَسَائِهِ جَاءَ إلى مَتْجَرِهِ يَوْمَاً، وقَالَ: إِنِّي بِحَاجَةٍ إلى ثَوْبِ خَزٍّ يَا أَبَا حَنِيفَةَ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا لَوْنُهُ؟

فَقَالَ: كذا وكذا.

فَقَالَ: اِصْبِرْ حَتَّى يَقَعَ لِي فَآخُذَهُ لَكَ.

فَمَا إِنْ دَارَتِ الجُمُعَةُ حَتَّى وَقَعَ لَهُ الثَّوْبُ المَطْلُوبُ.

فَمَرَّ بِهِ صَاحِبُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: قَد وَقَعَتْ لِي حَاجَتُكَ، وأَخْرَجَ إِلَيهِ الثَّوْبَ.

فَأَعْجَبَهُ وقَالَ: كَمْ أَدْفَعُ لِغُلامِكَ ثَمَنَهُ؟

فَقَالَ: دِرْهَمَاً.

فَقَالَ الرَّجُلُ في اسْتِغْرَابٍ: دِرْهَمَاً وَاحِدَاً.

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَعَم.

فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا كُنْتُ أَظُنُّكَ تَهْزَأُ بِي يَا أَبَا حَنِيفَةَ.

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا هَزِئْتُ بِكَ، وإِنَّمَا اشْتَرَيْتُ هذا الثَّوْبَ وآخَرَ مَعَهُ بِعِشْرِينَ دِينَارَاً ذَهَبَاً، ودِرْهَمٍ من الفِضَّةِ.

وقَد بِعْتُ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ بِعِشْرِينَ دِينَارَاً ذَهَبَاً، وبَقِيَ عَلَيَّ هذا بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، وما كُنْتُ لأَرْبَحَ على جَلِيسِي.

لا عِلْمَ لِي بالأَثْمَانِ، وإِنَّهَا الأَمَانَةُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِيَتَعَلَّمْ تُجَّارُنَا مِمَّنْ أَرَادَ اللهَ والدَّارَ الآخِرَةَ الأَخْلاقَ التِّجَارِيَّةَ من الإِمَامِ العَظِيمِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

فقد جَاءَتْهُ يَوْمَاً امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تَطْلُبُ ثَوْبَ خَزٍّ، فَأَخْرَجَ لَهَا الثَّوْبَ المَطْلُوبَ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي امْرَأَةٌ عَجُوزٌ، ولا عِلْمَ لِي بالأَثْمَانِ، وإِنَّهَا الأَمَانَةُ، فَبِعْنِي الثَّوْبَ بِمَا قَامَ عَلَيْكَ، وأَضِفْ إِلَيهِ قَلِيلاً من الرِّبْحِ، فَإِنِّي ضَعِيفَةٌ.

فَقَالَ لَهَا: إِنِّي اشْتَرَيْتُ ثَوْبَيْنِ اثْنَيْنِ في صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، ثمَّ إِنِّي بِعْتُ أَحَدَهُمَا بِرَأْسِ المَالِ إلا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَخُذِيهِ بِهَا، ولا أُرِيدُ مِنْكِ رِبْحَاً.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: مَا كَانَ الإِمَامُ عَظِيمَاً في تِجَارَتِهِ إلا بِسَبَبِ خَوْفِهِ من اللهِ تعالى، وطَمَعِهِ بِمَعِيَّةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ، لَقَد كَانَ يَخْشَى اللهَ تعالى، فَلَرُبَّمَا قَرَأَ القُرْآنَ كُلَّهُ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، ولَرُبَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ.

رُوِيَ أَنَّهُ قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ وهوَ يُرَدِّدُ قَوْلَهُ عزَّ وجلَّ: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾. وهوَ يَبْكِي من خَشْيَةِ اللهِ بُكَاءً يُقَطِّعُ عُرُوقَ القُلُوبِ.

ولَقَدُ عُرِفَ أَنَّهُ صَلَّى الفَجْرَ بِوُضُوءِ العِشَاءِ أَرْبَعِينَ عَامَاً.

هكذا يَكُونُ التُّجَّارُ تُجَّارَ الآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بالصَّالِحِينَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 17/رمضان /1436هـ، الموافق: 4/تموز/ 2015م

أخوكم أحمد النعسان

يَرجُوكُم دَعوَةً صَالِحَةً