42ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (2)

 

 42ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الأُمَّةَ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى أَنْ تَعُودَ إلى مَنْهَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وإلى السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لأَخْذِ الدُّرُوسِ والعِبَرِ النَّيِّرَاتِ المُبَارَكَاتِ، وتَتَعَلَّمَ مِنهَا الآدَابَ الرَّفِيعَةَ، والأَخْلاقَ الحَمِيدَةَ، والعَقَائِدَ السَّلِيمَةَ، والعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وسُمُوَّ الأَخْلاقِ، وطَهَارَةَ القَلْبِ.

ولهذا كَانَ سَيِّدُنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ يَقُولُ: كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ من القُرْآنِ.

الطَّرِيقُ إلى بَدْرٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بالصَّحْبِ الكِرَامِ نَحْوَ طَرِيقِ القَوَافِلِ إلى بَدْرٍ، والمَسَافَةُ بَيْنَ المَدِينَةِ وبَدْرٍ تَزِيدُ على مِئَةٍ وسِتِّينَ كِيلُو مِتْرَاً، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ غَيْرُ سَبْعِينَ بَعِيرَاً يَعْتَقِبُونَهَا.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ.

فَقَالَ: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَن الْأَجْرِ مِنْكُمَا».

النَّذِيرُ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: بَثَّ المُسْلِمُونَ عُيُونَهُم يَتَعَرَّفُونَ أَخْبَارَ قُرَيْشٍ، أَيْنَ القَافِلَةُ؟ وأَيْنَ الرِّجَالُ الذينَ قَدِمُوا لِحِمَايَتِهَا؟

لقد كَانَ أَبُو سُفْيَانَ المَسْؤُولَ عن الرَّاحِلَةِ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ مَكَّةَ مَحْفُوفٌ بالأَخْطَارِ، وكَانَ يَتَحَسَّسُ الأَخْبَارَ، ويَسْأَلُ من لَقِيَ من الرُّكْبَانِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَقَلَتْ إِلَيْهِ اسْتِخْبَارَاتُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَد اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لِيُوقِعَ بالعِيرِ، وَحِينَئِذٍ اسْتَأْجَرَ أَبُو سُفْيَانَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الغِفَارِيَّ إلى مَكَّةَ مُسْتَصْرِخَاً لِقُرَيْشٍ بالنَّفِيرِ إلى عِيرِهِم؛ لِيَمْنَعُوهُ من مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ ضَمْضَمُ سَرِيعَاً حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ بِبَطْنِ الوَادِي وَاقِفَاً على بَعِيرِهِ، وَقَد جَدَعَ أَنْفَهُ وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّقَ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ ـ الجِمَال الَّتِي تَحمِلُ العِطرَ والبَزَّ ـ أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا ، الْغَوْثَ الْغَوْثَ.

أَهْلُ مَكَّةَ يتَجَهَّزُونَ للغَزْوِ:

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ كَلامَ ضَمْضَمَ تَحَفَّزَ النَّاسُ سِرَاعَاً، وقَالُوا: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ؟ كَلَّا واللهِ لَيَعْلَمُنَّ غَيْرَ ذلكَ، فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إِمَّا خَارِجٌ، وَإِمَّا بَاعِثٌ مَكَانَهُ رَجُلَاً، وَأَوْعَبُوا في الخُرُوجِ ـ خَرَجَ كُلُّهُم ـ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ من أَشْرَافِهِم أَحَدٌ سِوَى أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ أَرسَلَ عِوَضاً عَنْهُ رَجُلَاً كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَحَشَدُوا مَن حَوْلَهُم من قَبَائِلِ العَرَبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنهُم أَحَدٌ من بُطُونِ قُرَيْشٍ إلا بَنِي عَدِيٍّ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنهُم أَحَدٌ.

جَيْشُ المُشْرِكِينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: خَرَجَ جَيْشُ المُشْرِكِينَ من مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَكَانَ قَوَامُ هذا الجَيْشِ نَحْوَ أَلْفٍ وَثَلاثِمَائَةِ مُقَاتِلٍ في بِدَايَةِ سَيْرِهِ، وَكَانَ مَعَهُ مِائَةُ فَرَسٍ وَسِتُّمَائَةِ دِرْعٍ، وَجِمَالٌ كَثِيرَةٌ لا يُعْرَفُ عَدَدُهَا بالضَّبْطِ، وَكَانَ قَائِدُهُ العَامُّ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَكَانَ القَائِمُونَ بِتَمْوِينِهِ تِسْعَةُ رِجَالٍ من أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَكَانُوا يَنْحَرُونَ يَوْمَاً تِسْعَاً وَيَوْمَاً عَشْرَاً من الإِبِلِ.

عِيرُ قُرَيْشٍ تَنْجُو:

أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَسِيرُ على الطَّرِيقِ الرَّئِيسِيِّ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَذِرَاً مُتَيَقِّظَاً، وَضَاعَفَ حَرَكَاتِهِ الاسْتِكْشَافِيَّةَ، وَلَمَّا اقْتَرَبَ من بَدْرٍ تَقَدَّمَ عِيرُهُ حَتَّى لَقِيَ مَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو، وَسَأَلَهُ عن جَيْشِ المَدِينَةِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدَاً أُنْكِرُهُ إلا إِنِّي قَد رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَد أَنَاخَا إلى هذا التَّلِّ، ثمَّ اسْتَقَيَا في شَنٍّ لَهُمَا، ثمَّ انْطَلَقَا، فَبَادَرَ أَبُو سُفْيَانَ إلى مَنَاخِهِمَا، فَأَخَذَ من أَبْعَارِ بَعِيرِهِمَا، فَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هذهِ واللهِ عَلائِفُ يَثْرِبَ، فَرَجَعَ إلى عِيرِهِ سَرِيعَاً، وَضَرَبَ وَجْهَهَا مُحَوِّلَاً اتِّجَاهَهَا نَحْوَ السَّاحِلِ غَرْبَاً، تَارِكَاً الطَّرِيقَ الرَّئِيِسِيَّ الذي يَمُرُّ بِبَدْرٍ على اليَسَارِ، وبهذا نَجَا بالقَافِلَةِ من الوُقُوعِ في قَبْضَةِ جَيْشِ المَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ رِسَالَتَهُ إلى جَيْشِ مَكَّةَ التي تَلَقَّاهَا في الجُحْفَةِ.

طَاغِيَةُ قُرَيْشٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا تَلَقَّى هذهِ الرِّسَالَةَ جَيْشُ مَكَّةَ هَمَّ بالرُّجُوعِ، وَلَكِنْ قَامَ طَاغِيَةُ قُرَيْشٍ أَبُو جَهْلٍ في كِبْرِيَاءٍ وَغَطْرَسَةٍ قَائِلَاً: واللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرَاً، فَنُقِيمَ فيهَا ثَلَاثَةً، فَنَنْحَرَ الجَزُورَ، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنَسْقِيَ الخَمْرَ، وَتَعْزِفَ لَنَا القِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا العَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدَاً.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: قُلُوبُ العِبَادِ بَيْنُ أُصْبُعَيْنِ من أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وإذا أَرَادَ اللهُ تعالى أَمْرَاً هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وسَلَبَ من ذَوِي العُقُولِ عُقُولَهُم.

لقد أَرَادَ اللهُ تعالى أَنْ يَجْعَلَ النِّهَايَةَ الوَخِيمَةَ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الذينَ صَبَرَ عَلَيْهِم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَطُمِسَ على قُلُوبِهِم، وأُخِذُوا بالعُجْبِ والغُرُورِ، وسَاقَهُم هذا إلى نِهَايَتِهِم.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَحْفَظَنَا من شَرِّ أَنْفُسِنَا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 19/رمضان /1436هـ، الموافق: 6/تموز/ 2015م