51ـ مع الصحابة وآل البيت : نماذج من أحوال الخائفين من آل البيت والصحابة رَضِيَ اللهُ عَنهُم

.

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

51ـ نماذج من أحوال الخائفين من آل البيت والصحابة رَضِيَ اللهُ عَنهُم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: سِيرَةُ الصَّحَابَةِ وآلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم تَبْعَثُ الهِمَمَ، وَأَخْبَارُهُمُ الطَّيِّبَةُ المُبَارَكَةُ تُوقِظُ العَزَائِمَ، وَأَحْوَالُهُم رَضِيَ اللهُ عَنهُم تُوقِظُ الغَافِلِينَ، فَهُم رَضِيَ اللهُ عَنهُم نَمَاذِجُ رَفِيعَةٌ، وَقُدُوَاتٌ شَامِخَةٌ.

أَخْبَارُ الصَّحَابَةِ وآلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم عَطِرَةٌ، وَسِيرَتُهُم مُبْهِجَةٌ، وَحَيَاتُهُم مُذْهِلَةٌ، لَقَد اسْتَحْيَوا من اللهِ تعالى حَقَّ الحَيَاءِ، فَذَكَرُوا المَوْتَ والبِلَى، وَتَرَكُوا زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَفِظُوا جَوَارِحَهُم عَن فُضُولِ الكَلامِ، وَصَلَّوْا باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ، وَصَامُوا فَأَحْسَنُوا الصِّيَامَ، مَعَ خَشْيَتِهِم من اللهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.

روى الإمام الترمذي عَن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾.

قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟

قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ».

لَقَد كَانَ الصَّحْبُ وآلُ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم يَعْمَلُونَ وَقلُوبُهُم وَجِلَةٌ، وَأَفْئِدَتُهُم خَائِفَةٌ، وَفَرَائِصُهُم تَرْتَعِدُ، لأَنَهُم أَيْقَنُوا أَنَّهُم إلى رَبِّهِم رَاجِعُونَ، فَهُم يَتَذَكَّرُونَ هَوْلَ الـمُطَّلَعِ (هَوْلُ المُطَّلَعِ: يَعنِي مَا يُطَّلَعُ عَلَيهِ مِن أَحوَالِ الآخِرَةِ وَشَدائِدِهَا) ، وَعَظَمَةَ المَوْقِفِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَبَارَكَ وتعالى، نَظَرُوا إلى نِعَمِهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْـصَى، ثمَّ نَظَرُوا إلى أَعْمَالِهِم وَضَآلَتِهَا، وإلى جُهُودِهِم وَقِلَّتِهَا، لِذَا تَرَاهُم خَائِفِينَ مَعَ أَعْمَالِهِم.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: هذا الخَوْفُ أَوْصَلَهُم إلى الاطْمِئْنَانِ، وهذا الوَصْلُ أَوْصَلَهُم إلى الأَمَانِ، وهذا الإِشْفَاقُ قَادَهُم إلى رِضَا اللهِ تعالى.

إِذَا مَــا اللَّـيْلُ أَظْـلَمَ كَـابِدُوهُ    ***   فَـيُـسْفِرُ عَـنْـهُم وَهُم رُكُوعُ

أَطَـارَ الخَـوْفُ نَوْمَهُم فَـقَامُوا   ***   وَأَهْلُ الأَمْنِ في الدُّنْيَا هُجُوعُ

لَهُم تَحْتَ الظَّلَامِ وَهُم سُـجُودٌ   ***   أَنِـيـنٌ مِـنْهُ تَـنْفَرِجُ الضُّلُوعُ

وخُرْسٌ بالنَّهَارِ لِطُولِ صَمْتٍ   ***   عَلَيْهِم من سَكِينَتِهِم خُشُوعُ

نَمَاذِجُ من أَحْوَالِ الخَائِفينَ من آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لِنَسْمَعْ إلى بَعْضِ النَّمَاذِجِ من أَحْوَالِ الخَائِفينَ من آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بالتَّأَسِّي بِهِم.

فَتَشَبَّهُوا إنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلهُم   ***   إِنَّ التَّشَبُّهَ بالكِرَامِ فَلاحُ

أولاً: سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: هذا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَد كَانَ صَوَّامَاً قَوَّامَاً، فَارِسَاً بالنَّهَارِ، وَرَاهِبَاً باللَّيْلِ، صَلَّى صَلاةَ الفَجْرِ في يَوْمٍ من الأَيَّامِ فَجَلَسَ حَزِينَاً مُطْرِقَاً، كَمَا روى الدينوري، والعَسْكَرِيُّ في المَوَاعِظِ عَن أَبِي أَرَاكَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الفَجْرَ، فَلَمَّا انْقَلَبَ عَن يَمِينِهِ مَكَثَ كَأَنَّ عَلَيْهِ كَآبَةً، ثمَّ قَلَبَ يَدَهُ، وَقَالَ: واللهِ لَقَد رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى اليَوْمَ شَيْئَاً يُشْبِهُهُم! لَقَد كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثَاً غُبْرَاً، بَيْنَ أَعْيُنِهِم كَأَمْثَالِ رَكْبِ المَعْزِ، قَد بَاتُوا للهِ سُجَّدَاً وَقِيَامَاً، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِم وَأَقْدَامِهِم، فَإِذَا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللَه مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ في يَوْمِ الرِّيحِ، وَهَمَلَتْ أَعْيُنُهُم حَتَّى تُبَلَّ ثِيَابَهُم، فَإِذَا أَصْبَحُوا واللهِ لَكَأَنَّ القَوْمَ بَاتُوا غَافِلِينَ؛ ثمَّ نَهَضَ، فَمَا رُئِيَ مُفْتِرَاً ضَاحِكَاً حَتَّى ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ.

وَدَخَلَ الأَشْتَرُ النَّخْعِيُّ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي باللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير المُؤْمِنِينَ، صَوْمٌ بالنَّهَارِ وَسَهَرٌ باللَّيْلِ، وَتَعَبٌ فِيمَا بَيْنَ.

فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ من صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ: سَفَرُ الآخِرَةِ طَوِيلٌ، فَيُحْتَاجُ إلى قَطْعِهِ بِسَيْرِ اللَّيْلِ .

وَيَقُولُ ضِرَارُ بْنُ ضُمَيْرَةَ الكِنَانِيِّ وَهُوَ يَصِفُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ: كَانَ يَسْتَوْحِشُ من الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ باللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ، وَأَشْهَدُ باللهِ لَقَد رَأَيْتُهُ في بَعْضِ مَوَاقِفِهِ، وَقَد أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ يَتَمَلْمَلُ في مِحْرَابِهِ، قَابِضَاً لِحْيَتَهُ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ(السليمُ:هُوَ مَن لَدَغَتْهُ الأَفعَى وَالَّلفظُ مِنَ الأَضدَادِ وَاستُعمِلَ لِلمَلدُوغِ مِن بَابِ التَّفَاؤُلِ)، وَيَبْكِي بُكَاءَ الحَزِينِ، فَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ الآنَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبَّنَا، يَا رَبَّنَا.

وَكَانَ يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا الذي إِنْ قُلْتُم سَمِعَ، وَإِنْ أَضْمَرْتُم عَلِمَ، وَبَادِرُوا المَوْتَ الذي إِنْ هَرَبْتُم أَدْرَكَكُم، وَإِنْ أَقَمْتُم أَخَذَكُم.

وَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا عَنِّي هَذِهِ الكَلِمَاتِ، فَلَو رَكِبْتُمُ المَطِيَّ (جَمْعُ مَطِيَّةٍ وَهِيَ الدَّابَّةُ التي يُرْكَبُ ظَهْرُهَا) حَتَّى تَنْضَوْهَا (أي :تُهزِلُوهَا مِن شِدَّةِ الَمشيِّ) مَا أَصَبْتُم مِثْلَهَا، لا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا رَبَّهُ، ولا يَخَافَنَّ إلا ذَنْبَهُ، ولا يَسْتَحْيِي إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنْ يَتَعَلَّمَ، ولا يَـسْتَحْيِي  إِذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمَ أَنْ يَقُولَ: لا أَعْلَمُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الصَبْرَ من الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ من الجَسَدِ، ولا خَيْرَ في جَسَدٍ لا رَأْسَ لَهُ.

ثانياً: سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: وهذا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، الذي امْتَازَ بِإِيمَانِهِ باللهِ تعالى، والاسْتِعْدَادِ لليَوْمِ الآخِرِ، كَانَ وَقَّافَاً عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تعالى، فَلَمْ تَطْغَ قُوَّتُهُ على عَدْلِهِ، ولا سُلْطَانُهُ على رَحْمَتِهِ، ولا غِنَاهُ على تَوَاضُعِهِ، فَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَدِيدَ الخَوْفِ من اللهِ تعالى، شَدِيدَ الخَوْفِ من يَوْمِ الحِسَابِ.

جَاءَ في كِتَابِ أُسْدِ الغَابَةِ في مَعْرَِفَةِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ أَعْرَابِيَّاً وَقَفَ على عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَقَالَ:

يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ   ***   اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ

وَكُنْ لَـنَا مِـن الزَّمَانِ جُنَّهْ   ***   أُقْـسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ

قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ ماذا يَا أَعْرَابِيُّ؟

قَالَ: أُقْسِمُ باللهِ لَأَمْضِيَنَّه.

قَالَ: فَإِنْ مَضَيْتَ يكون ماذا يَا أَعْرَابِيُّ؟

قَالَ:

واللهِ عَن حَـالِي لَـتُـسَأَلَنَّهْ   ***   ثمَّ تَكُونُ المَسْأَلَاتُ عَنَّهْ

والوَاقِفُ المُسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ   ***   إِمَّا إلى نَـارٍ وَإِمَّـا جَـنَّـهْ

قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ بِدُمُوعِهِ، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ قَـمِيصِي هَذَا، لِذَلِكَ اليَوْمِ لا لِشِعْرِهِ، واللهِ مَا أَمْلِكُ قَمِيصَاً غَيْرَهُ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: كَانَ يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَكْثِرُوا من ذِكْرِ النَّارِ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرَهَا بَعِيدٌ، وَمَقَامِعُهَا حَدِيدٌ.

من هذا المُنْطَلَقِ كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَدِيدَ الخَوْفِ من اللهِ تعالى، يُحاسِبُ نَفْسَهُ حِسَابَاً عَسِيرَاً، فَإِذَا خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ في حَقِّ أَحَدٍ طَلَبَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، فَكَانَ يُــقْبِلُ على النَّاسِ يَسْأَلُهُم عَن حَاجَاتِهِم، فَإِذَا أَفْضَوْا إِلَيْهِ بِهَا قَضَاهَا، وَلَكِنَّهُ يَنْهَاهُم عَن أَنْ يُشْغِلُوهُ بالشَّكَاوَى الخَّاصَّةِ إِذَا تَفَرَّغَ لِأَمْرٍ عَامٍّ، فَذَاتَ يَوْمٍ كَانَ مَشْغُولَاً بِبَعْضِ الأُمُورِ العَامَّةِ.

فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، انْطَلِقْ مَعِيَ فَأَعِنِّي على فُلَانٍ، فَإِنَّهُ ظَلَمَنِي.

فَرَفَعَ عُمَرُ الدُّرَّةَ، فَخَفَقَ بِهَا رَأْسَ الرَّجُلَ، وَقَالَ: تَتْرُكُونُ عُمَرَ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْكُم، حَتَّى إِذَا اشْتَغَلَ بِأُمُورِ المُسْلِمِينَ أَتَيْتُمُوهُ.

فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ مُتَذَمِّرَاً.

فَقَالَ عُمَرُ: عَلَيَّ بالرَّجُلِ؛ فَلَمَّا أَعَادُوهُ أَلْقَى عُمَرُ بالدُّرَّةِ إِلَيٍهِ، وَقَالَ، أَمْسِكِ الدُّرَّةَ، وَاخْفِقْنِي كَمَا خَفَقْتُكَ.

قَالَ الرَّجُلُ: لا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدَعُهَا للهِ وَلَكَ.

قَالَ عُمَرُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، إِمَّا أَنْ تَدَعَهَا للهِ وَإِرَادَةِ مَا عِنْدَهُ من الثَّوَابِ، أَوْ تَرُدَّهَا عَلَيَّ، فَأَعْلِمْ ذَلِكَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: أَدَعُهَا للهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَانْصَرَفَ الرَّجُلُ.

أَمَّا عُمَرُ فَقَد مَشَى حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، وَمَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، مِنْهُم الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ الذي حَدَّثَنَا عَمَّا رَأَى، فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الخَطَّابِ، كُنْتَ وَضِيعَاً فَرَفَعَكَ اللهُ، وَكُنْتَ ضَالَّاً فَهَدَاكَ اللهُ، وَكُنْتَ ذَلِيلَاً فَأَعَزَّكَ اللهُ، ثمَّ حَمَّلَكَ على رِقَابِ المُسْلِمِينَ.

فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَعْدِيكَ، فَضَرَبْتَهُ، مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدَاً إِذَا أَتَيْتَهُ؟

فَجَعَلَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ مُعَاتَبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: المُؤْمِنُ قَوَّامٌ على نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ للهِ، وَإِنَّمَا خَفَّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ على قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُم في الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ على قَوْمٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ من غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ.

إِنَّ المُؤْمِنَ يُفَاجِئُهُ الشَّيْءُ وَيُعْجِبُهُ، فَيَقُولُ: واللهِ إِنِّي لَأَشْتَهِيكَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي، وَلَكِنْ واللهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَفْرُطُ مِنْهُ الشَّيْءُ فَيَرْجِعُ إلى نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتُ إلى هذا؟ مَالِي وَلِهَذَا؟ واللهِ لا أَعُودُ إلى هذا أَبَدَاً، إِنَّ المُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْقَفَهُمُ القُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ هَلَكَتِهِم.

إِنَّ المُؤْمِنَ أَسِيرٌ في الدُّنْيَا يَسْعَى في فَكَاكِ رَقَبَتِهِ، لا يَأْمَنُ شَيْئَاً حَتَّى يَلْقَى اللهَ؛ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ في سَمْعِهِ، وفي بَصَرِهِ، وفي لِسَانِهِ، وفي جَوَارِحِهِ، مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ في ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَن قَالَ:

والـنَّفْـسُ كَالطِّفلِ إِنْ تُـهْمِلْهُ شَـبَّ   ***   عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

فَاحْـذَرْ هَـوَاهَـا وَحَـاذِرْ أَنْ تُـوَلِّـيَهُ   ***   إِنَّ الهَوَى مَـا تَـوَلَّى يُـعْـمِ أَو يُـصِـــمِ

وَرَاعِهَا وَهِـيَ في الأَعْـمَالِ سَـائِمَـةٌ    ***   وَإِنْ هِيَ اسْتَحَلَّتِ المَرْعَـى فلا تَـسُـمِ

كَمْ حَـسَّـنَـتْ لَـذَّةً للـمَـرْءِ قَـاتِـلَـةً   ***   من حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الـدَّسَــمِ

وَخَالِفِ النَّفسَ والشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا   ***  وَإِنْ هُمَا مَحَّضَـاكَ الـنُّصْـحَ فَـاتَّـهِـــمِ

ولا تُطِعْ مِـنْهُمَا خَـصْـمَاً ولا حَـكَـمَاً   * * *   فَأَنْتَ تَــعْـرِفُ كَـيْدَ الخَصْمِ والحَكَمِ

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

**        **      **

تاريخ الكلمة:

الخميس:3/ جمادى الأولى /1437هـ، الموافق: 11/شباط / 2016م