73- خطبة الجمعة: اصبر فالابتلاء من الله نعمة

 

أما بعد: فيا عباد الله، في أسماء الله تعالى الرحمن الرحيم، وهما اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوماً، ولا مرحوم إلا وهو محتاج.

ورحمة الله تعالى في خلقه لا نظير له فيها، فهو يوصل إليهم المنافع والمصالح وإن كرهتها نفوسهم وشقَّت عليها، ولله المثل الأعلى فرحمة الأب بولده أن يُكْرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشقّ عليه في ذلك بالضرب، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، وإذا أهمله والده كان ذلك لقلة رحمته به، وهذه رحمة مقرونة بجهل.

ولهذا من تمام رحمة الله عز وجل تسليطُ أنواع البلاء على العبد، ففقرك من رحمة الله بك، والخوف من رحمة الله بك، والنقص من الأموال والأنفس والثمرات من رحمة الله بك.

لذلك من رحمة الله بخلقه أمْرُه لهم أن يفوِّضوا أمورهم إليه، ويتوكَّلوا عليه، وأن يرضوا بما قسمه لهم، لأنه يعلم وهم لا يعلمون قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.

أيها الإخوة: يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}. فستر عنك العيب رحمة منه بك، وأخفى الحكمة عنك رحمة منه بك، وطلب منك أن تؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره فيما يبدو لك وأنت على يقين بأن الله تعالى أرحم بالعبد من الأم على ولدها.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم.

لا شك كلُّنا يريد الخير، وكلنا حريص على الخير، وكلنا على يقين بأن مصدر الخير من عند الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. فيا مريد الخير اصبر حتى ينكشف لك الحجاب لترى الخير من وراء الابتلاء، واعتبر من قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، عندما خرق الخضر السفينة وقتل الغلام وبنى الجدار؟ وقال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. فلما انكشف الحجاب كان الخير كل الخير في خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار.

واعتبر من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام حين بلغ الكبر وزوجته عقيم، وَهبَه الله إسماعيل عليه السلام على كبر سنه، فلما بلغ معه السعي أمره ابتلاءاً بذبحه بعد أن أحبه حب الوالد لولده، {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. فامتثل الخليل أمر ربه عز وجل فكان الخير العظيم له:

1. نجَّا الله إسماعيل من الذبح.

2. فداه بذبح عظيم.

3. بنى معه الكعبة.

4. رزقه مع إسماعيل إسحاق ومن ورائه يعقوب.

5. ولم يأت نبي بعد ذلك إلا من سلالة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

واعتبر من قصة سيدنا يوسف عليه السلام: عندما كان يعيش في كنف أبيه الرحيمِ الشفوقِ يعقوبَ عليه السلام، يخاف عليه أن يخرج للَّعب مع إخوته، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}. فإذا به يُنزع من وسط تلك الرعاية والعطف، ويفقد حنانَ الأبوة وأُنسَ الأُخوَّة، ويُلقى في الجب، وبعده يباع بثمن بخس دراهم معدودة، وبعد ذلك تتآمر النسوة عليه وخاصة امرأة العزيز، وبعد ذلك يسجن {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين}. فماذا كان بعد ذلك؟ كان الخير العظيم:

أولاً: منحه الله تعالى نسباً وجمالاً وشباباً {مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيم}.

ثانياً: أثنى الله عليه {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين}.

ثالثاً: جعله الله تعالى مضرب مثل لعفاف الشباب، والخشية لله في السر.

رابعاً: مكَّنه الله تعالى {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء}. وجعل الله خزائن الأرض بيده.

خامساً: أنزل الله تعالى سورة باسمه تتلى إلى يوم القيامة.

واعتبر من قصة سيدنا زكريا عليه السلام عندما حُرم الذّرّية دهراً طويلاً إلى أن وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيباً {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}. ولكنه التجأ إلى الله الذي يقول للشيء كن فيكون، التجأ إلى الله الذي يحيي العظام وهي رميم فقال تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.

صبر فظفر فما هي النتيجة أيها الإخوة؟ النتيجة خير عظيم:

أولاً: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى}. البشارة جاءته من عند الله عن طريق الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب.

ثانياً: الله تعالى هو الذي سمى له ولده بيحيى.

ثالثاً: طمأنه الله تعالى كيف سيكون حال ابنه قبل حمل أمه فيه، قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين}.

فيا أيها العبد المبتلى اصبر وصابر فالابتلاء من الله تعالى نعمة، وادع الله تعالى، وألحَّ في الدعاء، وكنْ على يقين من الاستجابة، واشتغل بعد ذلك بما كُلِّفْتَ به، وتذكَّرْ قولَ الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون}.

ولعلي أن أتابع معكم الحديث في هذا الموضوع في الأسبوع القادم إن أحيانا الله عز وجل.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

**     **     **