18ـ كلمة شهر شعبان 1429هـ: هل تعلم أيها الحاقد؟

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

حكم الحقد وأثره:

فالحقد هو إمساك العداوة في القلب والتربّص لفرصتها.

والحقد كبيرة من الكبائر، وإثم من الآثام الباطنة، ويجمع معه كبيرتين من الكبائر، الأولى الغضب، والثانية الحسد، فمن الغضب جاء الحقد، ومن الحقد جاء الحسد، وذمُّ واحدة منهما يستلزم ذم الأخرى، لأن ذم الفرع يستلزم ذم الأصل، وذم الأصل يستلزم ذم الفرع.

والحقد داء دفين يفتك بالأفراد والمجتمعات، وإذا عَجَزَ الشيطان أن يجعل من الرجل العاقل عابدَ صنم، ولكنه ـ وهو الحريص على إغواء الإنسان وإيراده المهالك ـ لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، حتى يجهل حقوق الله تبارك وتعالى أشدَّ مما يجهلها الوثني المخرِّف، والشيطان يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم، وتَلْتَهِمُ علائقهم وفضائلهم، ذلك أن الشرَّ إذا تمكَّن من الأفئدة الحاقدة تنافر وُدُّها، وارْتدَّ الناس إلى حال من القسوة والعناد، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض.

الحقد مصدر كثير من الرذائل:

والحقد هو المصدر الدفين لكثير من الرذائل، التي حذَّر الإسلام منها، من هذه الرذائل:

أولاً: الافتراء: صاحب الحقد عنده الجرأة على الافتراء على الأبرياء، والمفتري: خائب، خاسر، ولن يفلح يوم القيامة، ويحمل أثقالاً مع ثقله، وجزاؤه عند الله تعالى، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ الله عَظِيم}.

ثانياً: الغيبة: هي المُتَنَفَّس للحقود المكظوم الذي ما عرف الصفاء والرحمة، ويظن أنه بالغيبة يشفي غيظه، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ ذَكَرَ امْرَأً بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ الله فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَأْتِيَ بنفَاذِ مَا قَالَ فِيهِ) رواه الطبراني في الكبير.

ثالثاً: سوء الظن: الحقود سيئ الظن، وسوء الظن من المهلكات، وكل من رأيته سيئ الظن بالناس طالباً لإظهار معايبهم، فاعلم أن ذلك لخبث باطنه وسوء طويَّته، فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه.

رابعاً: تتبُّع العورات: الحَقود يجعل همَّه ودأبه أن يتبع العورات، وتتبُّع العورات من أكبر الكبائر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ).

خامساً: اللمز: الحَقود هذا وصفه، الهمز واللمز في حقِّ المحقود عليه، واللمز رذيلة من الرذائل قال الله تعالى في صاحبها: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة}.

ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقد؟

إذا عرفت يا أخي الحبيب حكم الحقد وأثره، وعرفت أنه مصدر لكثير من الرذائل، تعال واسمع يا أخي وأنت في هذا الشهر العظيم المبارك ماذا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقد؟

1ـ عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَطْلُعُ الله عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ) رواه الطبراني في الكبير. فيا أيها الحاقد لا تكن عنيداً في حقدك.

2ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، فَإِنَّ الله يَغْفِرُ لَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ: مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا ، وَلَمْ يَكُنْ سَاحِرًا يَتْبَعُ السَّحَرَةَ ، وَلَمْ يَحْقِدْ عَلَى أَخِيهِ) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان. أيها الحاقد لا تجعل الفرصة تفوتك بموتك، حيث تندم ولا ينفعك الندم.

3ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم. فهل ترضى أيها الحقود أن تؤخر المغفرة لك؟

4ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيصيب أمتي داء الأمم) فقالوا: يا رسول الله، وما داء الأمم؟ قال: (الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي) رواه الحاكم في المستدرك. فهل ترضى يا أيها المؤمن أن يصيبك هذا الداء الذي يصيب قلبك؟ والله تعالى يقول: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيم}.

5ـ واسمع يا أخي الحبيب أخيراً هذا الحديث الشريف، وتأمَّل فيه جيِّداً.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى.

فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ. قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ الله يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ الله: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلا خَيْرًا

فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ الله إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ الله إِيَّاهُ.

فَقَالَ عَبْدُ الله: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ. رواه أحمد والنسائي في السنن الكبرى.

وانظر يا أخي الحبيب إلى حسن الخاتمة:

قال زيد بن أسلم رضي الله عنه، دُخل على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض، وكان وجهه يتهلَّل، فقيل له: ما لوجهك يتهلَّل؟ فقال: ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنتين، كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً. أورده ابن سعد في الطبقات الكبرى، والذهبي في سير أعلام النبلاء.

اللهمَّ أكرمنا بذلك. آمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **