116- خطبة الجمعة: كيف تعظِّم النبيَّ المعظَّم صلى الله عليه وسلم؟

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

مقدمة الخطبة:

اعلموا بأن الذي عظَّمه الله تعالى لا يحتاج إلى تعظيم من خلق الله عز وجل، وإذا كان الله تعالى أمرنا بتعظيمه فإن الحقيقة ما أمرنا بتعظيمه إلا لنشرُفَ بذلك ونعظُمَ بذلك.

ونحن نرى كل من أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعظَّمه ووقَّره وعزَّره فهو عظيم عندنا قريب إلى قلوبنا مُهاب بيننا، فمن عظَّم الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم عظَّمه الله تعالى، ومن أحبَّه أحبَّهُ الله تعالى، ومن نصره وأيَّده نصره الله وأيَّده، والعكس بالعكس .

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى:

أيها الأخوة الكرام: قد يقول أحدنا: لو كنا في زمن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدناه عظَّمناه ووقَّرناه وعزَّرناه، ولكن أنَّى لنا هذا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؟

الجواب على هذا نأخذه من الأمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صاحبِ المذهب المشهور، إمامِ دار الهجرة، المولودِ في القرن الأول من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، الذي رأى آثار الصحابة والتابعين، كما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح عينيه فوجد التقديس للمدينة وما فيها، فانطبع ذلك في نفسه، ولازم ذلك التقديس حتى توفاه الله تعالى .

نأخذ الجواب على هذا من الإمام العظيم الذي ما أفتى حتى نضج واكتمل، وشهد له سبعون من شيوخه الثقات الذين تلقى عنهم فتاوى الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما وابن مسعود وغيرهما من فقهاء الصحابة .

نأخذ الجواب على هذا من الإمام العظيم الذي كان يخشى الله تعالى في فتاويه لأنه تدبر قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون} [النحل: 116]، لذلك كان يتحرَّز أن يخطئ في فتاويه، وكان كثيراً ما يقول: لا أدري، وكان يعقب فتواه بقوله: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين} فما ظنكم إذا أراد أن يحكم على إنسان بردة وكفر والعياذ بالله تعالى؟

الجواب على السؤال نأخذه من القصة التالية التي جرت بين الإمام مالك رحمه الله تعالى وأبي جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسين .

جاء في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض رحمه الله تعالى:

أن أبا جعفر المنصور ناظر الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنَّ صوت الخليفة ارتفع قليلاً في المسجد الشريف، فقال له الإمام مالك الذي تربى على تعظيم المدينة ومن فيها: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدَّب قوماً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون} الآية، ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم} الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عيه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفِّعه الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}.

لماذا حرمته ميتاً كحرمته حياً؟

اعتقادنا حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره:

والأدلة كثيرة جداً على حياته صلى الله عليه وسلم في قبره الشريف من القرآن العظيم ومن السنة المطهَّرة:

أولاً: قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169]، وكلنا يعلم بأن مرتبة الشهداء أقلُّ بكثير من مرتبة الأنبياء،لأن الشهداء أتباع الأنبياء، فإذا كان الشهداء أحياء في قبورهم فإن الأنبياء من باب أولى وأولى أن يكونوا أحياء في قبورهم.

ثانياً: النبي صلى الله عليه وسلم شهيد لأنه مات صلى الله عليه وسلم وهو يجد أثر السمِّ الذي جعلته المرأة اليهودية له في الطعام، وقد ثبت أنه عندما احتضر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ) رواه البخاري.

ثالثاً: ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود عن أوس بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ ـ يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ ـ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ).

وهل يكون العرض على ميت أم على حي؟

رابعاً: ما رواه البزار بسند رجاله رجال الصحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم).

وهل العرض والاستغفار يكون من ميت أم من حي؟

خامساً: كيف لا يكون صلى الله عليه وسلم حياً يسمع في قبره الشريف، وهو صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسلِّم على أهل القبور إذا مررنا بهم أو زرناهم، فتقول: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ) رواه مسلم، فهل نسلِّم على من لا يسمع؟ فلو كان سلامنا على من لا يسمع لكان التشريع هذا عبثاً، وحاشا أن يكون عبثاً، ولو كان الميت لا يسمع لطلب منا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء لهم دون السلام.

سادساً: إذا كان عامة الموتى يسمعون في قبورهم فكيف بسيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ لقد جاء في الحديث: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ...) رواه البخاري.

ولا نسأل عن حقيقة هذه الحياة، لأنها غيب فله صلى الله عليه وسلم حياة في قبره الشريف الله تعالى أعلم بحقيقتها.

فكيف نعظمه صلى الله عليه وسلم؟

أيها الأخوة: فاعتقادنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حي في قبره، وأنه يجب علينا أن نعظِّمه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كأنه بيننا، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى (وإنَّ حرمته صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً)، وذلك من خلال قراءة سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وكيف كان حالهم معه صلى الله عليه وسلم؟

لقد أدبهم الله تعالى من خلال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [الحجرات: 1ـ5].

صور من تعظيمه صلى الله عليه وسلم:

أولاََ: عدم رفع الصوت أثناء سماع حديثه الشريف وقراءة سيرته العطرة.

وأنا أعجب أيها الإخوة من الإنسان المسلم عندما يكون حاضراً مولد النبي صلى الله عليه وسلم أو يسمع القرآن العظيم أو حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلَّم مع الآخرين، أو أن تراه واضعاً رِجلاً فوق رِجْلٍ، أو تراه مدخِّناً، أو تراه ماداً رجليه أو متَّكئاً بدون عذر! أين الأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لقد كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم إذا جلسوا بين يديه صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهم الطير هيبة وإجلالاً له صلى الله عليه وسلم، واهتماماً بسماع كلامه وحديثه الشريف.

ولقد أخذوا هذا الأدب من سيدنا جبريل عليه السلام الذي جاء معلِّماً للصحابة كيف يكون الأدب مع رسول الله عليه وسلم، كما يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) رواه مسلم.

هكذا يكون الأدب عند سماع الحديث الشريف:

أن يلبس الإنسان أحسن الثياب، وأن يتطيَّب ويتعطَّر، ويجلس جلسة الصلاة ـ إن لم يكن صاحب عذر ـ أثناء سماعه الحديث الشريف، لا أن يأتي بثياب مبتذلة، مع رائحة الدخان التي تكون في فمه، وربما أن يكون قد ألقى السيجارة على باب المسجد ودخل ليسمع ذكر الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أن لا نناديه باسمه الشريف، بل نناديه كما علمنا ربنا عز وجل في القرآن العظيم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر}.

وخاصة عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، فلا تقل: السلام عليك يا محمد، بل قل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا سيدي يا رسول الله، يا نبي الله، يا حبيب الله...

لأن الله تعالى أمرنا بقوله: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]، ولأنه تبارك وتعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، ولكنه لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة باسمه الشريف، بل خاطبه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر}.

ثالثاًً: الالتزام بشرعه والاحتكام إليه.

رابعاً: الدفاع عن سنته العطرة وسيرته الشريفة.

خامساً: تعظيم آثاره الشريفة إذا ثبتت بإسناد صحيح .

فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الوضوء: عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: قَالَ قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ. فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده: (لأَنْ يَكُونَ عِنْدِي مِنْهُ شَعَرَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ أَصْبَحَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ وَفِي بَطْنِهَا).

وسيدنا عَبيدة هو عَبيدة بن عمرو السَّلْماني الكوفي، تابعي كريم مخضرم، أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وهو فقيه ثبت، وهو من رجال الكتب الستة.

يقول الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام وإمام الجرح والتعديل:

(قلت: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس. ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بخمسين سنة، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شقفة من إناء شرب فيه، فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده، أكنت تعده مبذراً أو سفيهاً؟ كلا. فابذل مالك في زورة مسجده الذي بنى فيه بيده، والسلام عليه عند حجرته في بلده، والتذَّ بالنظر إلى أُحُدِهِ وأحِبَّه، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه، وتملَّا بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم. وقبِّل حجراً مكرماً نزل من الجنة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبَّله سيد البشر بيقين، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر. ولو ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبل محجنه، لحقَّ لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل، ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل محجنه ونعله.

وقد كان ثابت البناني رحمه الله إذا رأى أنس بن مالك رضي الله عنه أخذ يده فقبلها، ويقول: يد مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم) اهـ.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنَها:

أيها الإخوة الكرام: فالأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عالم البرزخ إذا كنا أمام قبره الشريف أو في روضته الشريفة أو في مسجده الشريف، أو عند سماع حديثه أو سيرته أو شمائله الشريفة، هو نفس الأدب كما لو كان حياً، لأنه صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره، ولأن الله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7]، ولأنه صلى الله عليه وسلم معنا في حديثه الشريف وسيرته العطرة وشريعته السامية.

عندما سمع أبو جعفر المنصور من الإمام مالك: وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، استفتاه بقوله: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الإمام مالك رحمه الله: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عيه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفِّعه الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}.

فمع جواب الإمام مالك رحمه الله تعالى في الأسبوع القادم إن أحيانا الله عز وجل.

اللهم لا تحرمنا الأدب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً وميتاً، وأكرمْنا بالاتباع له قولاً وفعلاً. أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **