209ـ اغتنام ليل الشتاء

كلمة شهر رجب 1445

209ـ اغتنام ليل الشتاء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ».

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ».

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ؟

قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟

قَالَ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ. رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ.

وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَرْحَبًا بِالشِّتَاءِ، فِيهِ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، أَمَّا لَيْلُهُ فَطَوِيلٌ للقَائِمِ، وَأَمَّا نَهَارُهُ فَقَصِيرٌ للصَّائِمِ.

وَيَقُولُ الحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نِعْمَ زَمَانُ المُؤْمِنِ الشِّتَاءُ، لَيْلُهُ طَوِيلٌ يَقُومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصُومُهُ.

وَيَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قِيَامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ يَعْدِلُ صِيَامَ نَهَارِ الصَّيْفِ.

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ أَنَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟

قَالَ: مَا أَبْكِي جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وَعَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ فَضَائِلِ الشِّتَاءِ أَنَّهُ يُذَكِّرُ الأُمَّةَ بِزَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمٌ حَارٌّ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مَا أَشَدَّ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي اسْتَجَارَ بِي مِنْ حَرِّكِ فَاشْهَدِي أَنِّي أَجَرْتُهُ، وَإِنْ كَانَ يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مَا أَشَدَّ بَرْدَ هَذَا الْيَوْمِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي قَدِ اسْتَجَارَنِي مِنْ زَمْهَرِيرِكِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ».

قَالُوا: مَا زَمْهَرِيرُ جَهَنَّمَ؟

قَالَ: «بَيْتٌ يُلْقَى فِيهِ الْكَافِرُ، فَيَتَمَيَّزُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ».

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا وَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ، نَفَسًا فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسًا فِي الصَّيْفِ، فَأَمَّا نَفَسُهَا فِي الشِّتَاءِ فَزَمْهَرِيرٌ، وَأَمَّا نَفَسُهَا فِي الصَّيْفِ فَسَمُومٌ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: يَسْتَعِيذُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْحَرِّ، فَيُغَاثُونَ بِرِيحٍ بَارِدٍ يَصْدَعُ الْعَظْمَ بَرْدُهَا، فَيَسْأَلُونَ الْحَرَّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

في الخِتَامِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا مَهْمَا مَضَتْ أَيَّامُهَا، وَانْقَضَتْ سِنُونُهَا وَأَعْوَامُهَا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِأَصْحَابِهَا مِنْ نِهَايَةٍ، لَا بُدَّ للإِنْسَانِ أَنْ يَقِفَ تِلْكَ السَّاعَةَ الأَخِيرَةَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا، لِكَيْ يُلْقِيَ عَلَيْهَا آخِرَ النَّظَرَاتِ، عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَوْلَادِ، وَالإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ، وَالآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، يَتَفَطَّرُ قَلْبُهُ عَلَى فِرَاقِ الأَحِبَّةِ.

وَلَكِنْ هُنَاكَ أَلَمٌ وَحُزْنٌ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ حِينَ تَمْضِي سَاعَاتُ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ بِدُونِ اغْتِنَامِهَا في طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّقَرُّبِ مِنْهُ، لِذَلِكَ تَرَاهُ يَقُولُ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ بَعْدَ أَنْ فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ تعالى: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَغْتَنِمْ فُرْصَةَ الشِّتَاءِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ مَعَ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعَ القُرُبَاتِ، وَلْنَصُمْ أَيَّامَهُ القَصِيرَةَ تَزَوُّدًا لِيَوْمِ الرَّحِيلِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

السبت: 1/رجب /1445هـ، الموافق: 13/ كانون الثاني / 2024م