900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، رَوَى ابْنُ مَاجَه عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ عَبْدًا، نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمَقَّتًا، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمَقَّتًا، نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَةُ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَةُ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا، نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا، نُزِعَتْ مِنْهُ رِبْقَةُ الْإِسْلَامِ».

وَرَوَى الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ».

يَا عِبَادَ اللهِ: خُلُقُ الحَيَاءِ فِطْرَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، فَطَرَ اللهُ تعالى عَلَيْهَا خَلْقَهُ، كَمَا قَالَ تعالى في حَقِّ أَبِي البَشَرِ: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: خُلُقُ الحَيَاءِ شَجَاعَةٌ تَمْلَأُ القَلْبَ حَتَّى تَمْنَعَهُ مِنْ فِعْلِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ وَفِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ.

المَرْأَةُ التي اسْتَحْيَتْ مِنْ رَجُلٍ مَيْتٍ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا خَيْرَ في حُسْنِ امْرَأَةٍ وَعِلْمِهَا إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الحَيَاءِ رِدَاؤُهَا.

هَلْ سَمِعْتُمْ يَا عِبَادَ اللهِ امْرَأَةً اسْتَحْيَتْ مِنْ رَجُلٍ مَيْتٍ؟

نَعَمْ، أُمُّنَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا؛ تَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا عِنْدَمَا دُفِنَ الفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ـ وَكَانَ قَدِ اسْتَأْذَنَهَا في حَيَاتِهِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ لِابْنِهِ: انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، وَلَا تَقُلْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْتُ اليَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ.

فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ السَّلَامَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ.

فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي.

فَلَمَّا أَقْبَلَ، قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ.

قَالَ: ارْفَعُونِي، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟

قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ.

قَالَ: الحَمْدُ للهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ، فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

اسْمَعُوا وَأَسْمِعُوا نِسَاءَكُمْ وَبَنَاتِكُمْ كَلَامَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، رَوَى الحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِّي وَاضِعٌ ثَوْبِي وَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَتْ أُمُّنَا أُمُّ نِسَائِنَا وَبَنَاتِنَا تَرْتَدِي خِمَارَهَا حَيَاءً مِنْ رَجُلٍ مَيْتٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَسْتَحْيِينَ مِنْ أَمْوَاتٍ وَلَا أَحْيَاءٍ؟

لِمَاذَا لَا تَشْعُرُ نِسَاؤُنَا وَمَحَارِمُنَا بِهَذَا الحَيَاءِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الجَنَّةُ أُمُّ الأُمْنِيَاتِ، وَأَعْظَمُ المَرْجُوَّاتِ، المَرْأَةُ المُسْلِمَةُ الحَيِيَّةُ هِيَ التي تَذْكُرُ الجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا، وَتَذْكُرُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.

هَذِهِ المَرْأَةُ إِنْ ذَكَرَتِ الجَنَّةَ هَانَ عَلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ في سَبِيلِهَا، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي.

قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ».

فَقَالَتْ: أَصْبِرُ.

فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ؛ فَدَعَا لَهَا.

مَا أَعْظَمَ حَيَاءَ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ.

اللَّهُمَّ اسْتُرْ أَعْرَاضَنَا وَأَعْرَاضَ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ رجب /1445هـ، الموافق: 26/ كانون الثاني / 2024م