906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ.

وَإِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَنْ تَرَى بَعْضَ الذينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ تعالى، وَجَعَلَهُمْ مِنْ وَرَثَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ، أَنْ يُقَصِّرُوا في تِلَاوَتِهِ وَفَهْمِهِ وَالعَمَلِ بِهِ، وَبِذَلِكَ قَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.

لِمَاذَا يَكُونُ أَحَدُنَا ظَالِمًا لِنَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ السَّابِقِينَ بِالخَيْرَاتِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ التَّقْصِيرَ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ سَبَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِنَا، وَسَبَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِنَا، وَهُمُومِنَا وَأَحْزَانِنَا.

إِنَّ سَبَبَ تَقْصِيرِنَا مَعَ كِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ هُوَ جَهْلُنَا بِكِتَابِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَلَوْ عَرَفْنَا ثِمَارَ الإِقْبَالِ عَلَى القُرْآنِ العَظِيمِ تِلَاوَةً وَفَهْمًا وَعَمَلًا، لَـمَا تَرَكْنَا التَّمَسُّكَ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ تِلَاوَةً وَفَهْمًا وَعَمَلًا.

ثِمَارُ الإِقْبَالِ عَلَى القُرْآنِ العَظِيمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ ثِمَارَ الإِقْبَالِ عَلَى القُرْآنِ العَظِيمِ تِلَاوَةً وَفَهْمًا وَعَمَلًا كَثِيرَةٌ وَكَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا:

أَوَّلًا: أَنَّهُ الهَادِي إلى سُبُلُ السَّلَامِ وَإِلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ هَـذَا القُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.

ثَانِيًا: أَنَّ المُلْتَزِمَ بِهِ لَا يَخَافُ مِنَ المُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَحْزَنُ عَلَى المَاضِي، قَالَ تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

نَعَمْ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الآمِرُ هُوَ الضَّامِنُ لِنَتَائِجِ الالْتِزَامِ، فَمَنِ الْتَزَمَهُ لَا يَخَافُ مِنْ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَا يَحْزَنُ عَلَى مَا فَاتَ.

ثَالِثًا: أَنَّ المُلْتَزِمَ بِهِ لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، قَالَ تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾.

وَمَا ضَلَّتِ الأُمَّةُ وَشَقِيَتْ إِلَّا بِسَبَبِ إِعْرَاضِهَا عَنْ دُسْتُورِ اللهِ تعالى وَعَنْ شَرْعِهِ، وَعَنِ القُرْآنِ الذي أَكْرَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى﴾. فَالإِعْرَاضُ عَنْ تَشْرِيعِ اللهِ تعالى شَقَاءٌ في الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ في الآخِرَةِ.

رَابِعًا: أَنَّهُ مَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَا تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ إِلَّا قَصَمَهُ اللهُ تعالى، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الحَارِثِ قَالَ: مَرَرْتُ فِي المَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الأَحَادِيثِ.

قَالَ: وَقَدْ فَعَلُوهَا؟

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ».

فَقُلْتُ: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «كِتَابُ اللهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

فَالجِنُّ عِنْدَمَا سَمِعُوا القُرْآنَ الذي هُوَ دُسْتُورُ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ قَالُوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾.

فَهَذَا هُوَ دُسْتُورُ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مَا نَرْجُو أَنْ نُحْكَمَ بِهِ حَتَّى يُرْفَعَ الظُّلْمُ عَنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَامِسًا: أَنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ ضَمِنَ الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ في الدُّنْيَا، وَحُسْنَ الجَزَاءِ في الآخِرَةِ لِمَنِ الْتَزَمَهُ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

وَالعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا أَصْلَحَهُ الشَّرْعُ، وَالفَاسِدُ مَا أَفْسَدَهُ الشَّرْعُ، وَعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ: البَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالرِّبَا عَمَلٌ فَاسِدٌ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.

لَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِنَّ الرِّبَا ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَاقْتِصَادِيَّةٌ، فَالرِّبَا عَمَلٌ فَاسِدٌ وَعَوَاقِبُهُ وَخِيمَةٌ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِمَاذَا تَرَكْنَا قُرْآنَنَا؟ هَلْ رَأَيْنَا الخَيْرَ في غَيْرِهِ؟ لِمَاذَا لَا نُحَافِظُ عَلَى القُرْآنِ العَظِيمِ تِلَاوَةً وَفَهْمًا وَعَمَلًا، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ سَمِعْنَا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالمَحْفُوظِ صَارَ مَحْفُوظًا.

يَا عِبَادَ اللهِ: القُرْآنُ العَظِيمُ سِرُّ حَيَاتِنَا الطَّيِّبَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا إلى تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ وَتَدَبُّرِهِ وَالعَمَلِ بِمُحْكَمِ آيَاتِهِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 19/ رمضان /1445هـ، الموافق: 29/ آذار / 2024م