146- خطبة الجمعة: حافظ على عبادتك من الضياع

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

مقدمة الخطبة:

لقد ذكرت لكم في صبيحة هذا اليوم المبارك في خطبة عيد الأضحى المبارك، هذا اليوم العظيم الذي فيه لله تعالى عتقاء من النار لا يعلم عددهم إلا الله، هذا اليوم العظيم المبارك الذي يباهي فيه مولانا عز وجل بأهل الأرض أهل السماء فيقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم) رواه ابن خزيمة، هذا اليوم العظيم المبارك الذي تعمُّ فيه المغفرة جميع أهل الأرض من التائبين الذين حفظوا ألسنتهم وجوارحهم من المعاصي، وأسأل الله تعالى أن نكون ممن شملتهم رحمة الله وعمَّهم فضله الواسع، لقد ذكرت لكم أيها الإخوة بأن العيد هو يوم شكر لله تعالى الذي وفَّقنا للعبادات والطاعات والمبرات.

العبادة سبب فلاحنا:

أيها الإخوة: العبادة هي سبب وسرُّ سعادتنا ونجاحنا وفلاحنا، بها نحيا حياة طيبة في الدنيا، وبها يكون القبر روضة من رياض الجنة، وبها ندخل جنة عرضها السموات والأرض، العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج هي من أجل مصلحتنا الدنيوية والأخروية، فجدير بالمؤمن العاقل أن يحافظ عليها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُون * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُون}.

العيد بعد عبادتين:

أيها الإخوة، ولو نظرنا نظرة إمعان فإننا نجد العيد جاء بعد عبادتين من العبادات التي بني الإسلام عليها، جاء بعد ركنين عظيمين من أركان الإسلام الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والملاحظ أيها الإخوة بأن العيد جاء بعد عبادة الصيام وعبادة الحج، ولم يأت بعد الصلاة ولا بعد الزكاة، والسر في هذا والله تعالى أعلم هو أن الصيام تميَّز عن سائر العبادات بقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فأجر الصائم لا يعلمه إلا الله تعالى، لذلك كانت للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، لذلك كان العيد من وراء الصيام، فالعيد الأول للصائمين الذين لهم من الأجر ما لا يعلمه إلا الله تعالى ببركة هذا الصيام.

أما بالنسبة للحج فكان من ورائه عيد، لأن الحاج يرجع بعد أداء حجه بإذن الله تعالى كيوم ولدته أمه، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) رواه البخاري.

وعيد لنا وإن كنا لم نذهب إلى الحج لأنا أقمنا على عذر وعن قدر، ولكن لنا حظٌّ وافر من حجاج بيت الله الحرام، من وفد الله عز وجل، الذين إذا سألوا الله تعالى أعطاهم، وهم شملونا بالدعاء إن شاء الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغفر للحاج ، ولمن استغفر له الحاج) رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

لماذا لا يكون من وراء الصيام والحج عيد والله تعالى يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون}؟ فالعيد لأهل الطاعة والعبادة، وخاصة عبادة لا يعلم أجرها إلا الله، وعبادة يرجع صاحبها من بعدها كيوم ولدته أمه.

حافظ على العبادة بحسن الأخلاق:

أيها الإخوة: العبادة من أجل سلامتنا في الآخرة، فلنحافظ عليها من الضياع بسبب سوء الأخلاق، لأن هناك كثيراً من المسلمين من يضيِّع هذه العبادات بسبب سوء أخلاقه، كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من حاج ليس له من حجه إلا التعب والنصب وذلك بسبب سوء الأخلاق.

فالعبادة من أجل سلامتنا، والأخلاق من أجل سلامة عباداتنا، ولينظر كل واحد منا إلى أخلاقه أين هي من أخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

الأخلاق إذا ساءت لا قدَّر الله ضاعت العبادة، وإذا ضاعت العبادة خسر صاحب الخلق السيئ الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث الشريف عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) رواه مسلم.

صل من قطعك:

أيها الإخوة الكرام: من الخلق الحسن الذي به تحافظ على عبادتك أن لا تقابل السيئة بالسيئة، بل تعفو وتصفح، لأن العابد بحقٍّ لا يفرِّق بين أمر وأمر، العابد بحقٍّ متَّبع وممتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول صلى الله عليه وسلم: (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. وهذا يشمل القريب والبعيد، القاصي والداني، يشمل الزوجة إن أساءت، والولد إن أساء، والأجير إن أساء، والشريك إن أساء.

وإنه لمن العجيب أن ترى عابداً كأنه لا يريد أن يسمع مثل هذا الحديث الشريف، يريد العابد أن ينتصر لنفسه.

أيها العابد: أُذكِّر نفسي وإياك بقول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}. رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن تصل من قطعك وأن تعفو عمن ظلمك وأن تحسن لمن أساء إليك، فأين أنا وأنت من امتثال هذا الأمر؟

ما أجمل الأسرة والعائلة والبلدة والمجتمع إذا تحلَّى كل واحد منهم بهذا الخلق السامي العالي، بخلق العفو والصفح ووصل من أساء، حتى نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وصدق الله القائل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم}.

لن تؤمنوا حتى تَرحموا:

أيها الإخوة الكرام: من الخلق الحسن الذي به تحافظ على عبادتك هو الرحمة، لقد أمر الإسلام بالتراحم العام، وجعله من دلائل الإيمان الكامل، فالمسلم قلبه مجبول على رحمة خلق الله جميعاً. يقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم. قال: إنه ليس برحمة أحدكم، ولكن رحمة العامة رحمة العامة) رواه الحاكم عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لا يَرْحَمْ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) رواه مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه. ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لاَ يَغْفِرْ لاَ يُغْفَرْ لَهُ) رواه البخاري في الأدب المفرد عن جابر رضي الله عنه.

وإنني أخاطب من هذا المنبر كل فرد من المسلمين حاكماً أو محكوماً، من المسؤولين ومن الرعية، وأقول لنفسي وللجميع: تراحموا يا عباد فيما بينكم، يا أيها الراعي ارحم رعيتك، يا أيتها الرعية ارحمي الراعي، يا أيها الأزواج ارحموا الزوجات، يا أيتها الزوجات ارحموا الأزواج، يا أيها الأغنياء ارحموا الفقراء، يا أيها الفقراء ارحموا الأغنياء.

تراحموا يا عباد الله لأن القسوة ليست من صفات المؤمنين إنما هي من صفات الفاسقين، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون}.

يا عباد الله: الرحمةَ الرحمة، لا تجعلوها ميتة في قلوبكم، وتذكَّروا بأن امرأة بغيّاً رحمت كلباً عَطِشاً فغفر الله تعالى لها، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا) رواه مسلم.

ارحموا يا أصحاب القرارات الأمة إذا أصدرتم القرارات، وارحموا الأمة يا منفِّذي القرار إذا نفَّذتم القرارات، ارحموا العاجز والشيخ الفاني، ارحموا الرجال والنساء والأطفال، ارحموا أصحاب الحاجة، فالرحيم يُرحم، والقاسي يطرد من رحمة الله عز وجل والعياذ بالله تعالى.

أيها العابدون: توِّجوا عباداتكم بالأخلاق الحسنة والتي من جملتها الرحمة، وتذكَّروا مدح الله عز وجل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان عابداً صوَّاماً قوَّاماً مجاهداً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، عندما أراد أن يمدحَهُ مَدَحَهُ بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}. وذكّره بقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين}.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيها الإخوة الكرام: حافظوا على عباداتكم من خلال الأخلاق الحسنة، وامتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمركم به حتى تفوزوا بثمرة العبادات ألا وهي دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَنْ أَبَى، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

أيها الإخوة: صِلُوا من قَطَعَكم، واعفوا عمَّن ظلمكم، وأحسنوا لمن أساء إليكم، وكونوا متراحمين فيما بينكم، وتخلَّقوا بأخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

إذا وصلت من وصلك فأنت لست بواصل، وإذا أحسنت لمن أحسن إليك فأنت لست بمحسن، بل أنت مكافئ، قابلت الإحسان بالإحسان والوصل بالوصل، ولكن الواصل الحقيقي من إذا قُطِع وصل، والمحسن الحقيقي من إذا أُسيء إليه أحسن. قال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِىء، وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) رواه البخاري.

أيها الإخوة: تراحموا لتُرحموا من قبل مولاكم، لأنه من لا يرحم لا يُرحم، ونحن بأمسِّ الحاجة إلى رحمة الله تعالى.

اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذِّبْنا فإنَّك علينا قادر، اللهم اجعل هذا الكلام حجة للقائل والسامع ولا تجعله حجة علينا يا أرحم الراحمين.

أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **