221ــ خطبة الجمعة: أيها الفاسد المفسد أمامك خياران

 

مقدِّمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فأستفتح بالذي هو خير:

يقول مولانا عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [القصص: 83].

صنِّف نفسك أيها الإنسان من أيِّ الصنفين أنت؟ هل أنت من أهل التقوى، أم من أهل العلوِّ والفساد؟ وتذكَّر قول الله تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14ـ15].

أيها الإنسان: أنت أدرى بنفسك من غيرك، إن كنت من أهل التقوى فلا يضرك شيء، ولو اجتمعت أهل الأرض عليك وقالوا عنك: أنت فاسد، فإنهم لا يغيرون وصفك.

وإذا كان الإنسان من أهل العلوِّ في الأرض والفساد، فلا ينفعه شيء، ولو اجتمعت عليه أهل الأرض وقالوا عنه: أنه صالح، فإنهم لا يغيِّرون من وصفه شيئاً.

العاقبة للمتقين:

يا عباد الله: الموت يعمُّنا، والقبر يضمُّنا، والقيامة تجمعنا، والله يفصل بيننا، فيا من آمن بذلك كن من أهل التقوى، ولا تكن ممن أراد علواً في الأرض وفساداً، لأن العاقبة لك وربِّ الكعبة، طال الزمن أم قصر، لأن أصدق القائلين الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء يقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}.

هذه حقيقة لو اجتمع أهل الأرض على تبديلها لعجزوا، فيا أيها المتقي اصبر وصابر، وانضبط بضوابط الشريعة، وإياك والخروج عن حدود الشريعة، إياك والانفعال، ولا تخرج عن طورك، فالعاقبة لك بوعد الله الذي لا يخلف.

أيها الفاسد المفسد أمامك خياران:

يا عباد الله، إني أتوجَّه إلى الفاسد المفسد الذي أراد علواً في الأرض وفساداً، وأقول له: أيها الفاسد المفسد أمامك خياران لا ثالث لهما:

الأول: أن تتوب إلى الله تعالى من العلوِّ في الأرض والفساد قبل أن تقع في سياق الموت.

الثاني: أن تصرَّ على العلوِّ والفساد.

فإن اخترت الخيار الأول فهنيئاً لك، وهذا الذي نتمنَّاه لك، وإن صدقت في توبتك لله تعالى، وحقَّقت شروطها، فأبشر بأمور ثلاثة:

الأمر الأول: أنت ستكون من المفلحين يوم القيامة بإذن الله تعالى، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [النور: 31].

الأمر الثاني: أنت ستكون من المحبوبين عند الله تعالى بإذن الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} [البقرة: 222].

الأمر الثالث: توبتك خير لك، لأن خير التوبة يعود على التائب لا على الله تعالى، قال تعالى: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} [التوبة: 74].

يا عباد الله: لقد ظهر الفساد في البرِّ والبحر، وعمَّ وطمَّ، وجلب الشقاء وحياة الضنك للأمة على كلِّ مستوياتها بدون استثناء من القاعدة إلى القمة.

وأنا أتوجَّه إلى كلِّ فاسد ومفسد في هذا المجتمع لأقول له: هل رأيت آثار الفساد بين العباد والبلاد أم لا؟ كل هذه الآثار ستتحمل نتائجها يوم القيامة إذا لم تسرع إلى التوبة قبل موتك، لأن توبتك لا تنفع إذا وقعت روحك في الآخرة، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18].

واعتبر أيها الفاسد المفسد من قصة فرعون الذي فسد وأفسد وعلا في الأرض، حتى قال ما قال، انظر إليه عندما وقع في سياق الموت، ووقعت روحه في الغرغرة قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين} [يونس: 90] لكن جاءه الجواب من الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين} [يونس: 91].

اسمع أيها الفاسد إن كنت مصرّاً على الفساد:

أيها الفاسد المفسد، يا من يريد علواً في الأرض وفساداً، اسمع مهما كانت منزلتك، ومهما كان وصفك، وأينما كنت، تب إلى الله تعالى من فسادك.

أيها الفاسد المفسد إن كنت من الشعب أو من الحكومة، تب إلى الله تعالى، أيها الموظف، أيها المدير، أيها المسؤول، أيها الضابط، أيها الطبيب، أيها المهندس، أيها المدرِّس، أيها المتعهِّد، أيها الإنسان المفسد مهما كان وصفك، صغيراً كنت أم كبيراً، حاكماً كنت أم محكوماً، رجلاً كنت أم امرأة، تب إلى الله تعالى قبل موتك، وإلا فأنت من الخاسرين وربِّ الكعبة.

عاقبة المصرِّ على الفساد:

أيها الفاسد المفسد، إذا اخترت الإصرار على العلوِّ والفساد فاسمع مهما كانت منزلتك ومكانتك، فاسمع إن كنت من الشعب أو الحكومة والمسؤولين، اسمع إلى عاقبة المصرِّ على الفساد:

أولاً: المفسد المصرُّ مجرَّد من صفة التقوى، قال تعالى في حقِّ المتَّقين ووصفهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135]، ومن جُرِّد من صفة التقوى بسبب الإصرار على الفساد هو من الخاسرين.

ثانياً: المفسد المُصرُّ مبشَّر بالعذاب الأليم، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيم} [الجاثية: 7ـ8].

ثالثاً: المفسد المُصرُّ من أصحاب الشمال، قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَال * فِي سَمُومٍ وَحَمِيم * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيم * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِين * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيم} [الواقعة: 41ـ46].

تفكَّر أيها الفاسد المفسد في النتائج يوم القيامة، قال تعالى في أهل الشمال من المفسدين المصرين: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه * خُذُوهُ فَغُلُّوه * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه} [الحاقة: 25ـ32].

هل عرفت هذا أيها الفاسد المفسد؟ هل عرفت هذا أيها المرابي؟ هل عرفت هذا أيها الراشي والمرتشي والرائش؟ هل سمعت هذا يا شارب الخمر ومرتكب الفاحشة؟ هل سمعت هذا يا من يأمر من تحت يده بترك الصلاة؟ هل سمعت هذا يا من تركت المأمورات وفعلت المحظورات؟

رابعاً: المفسد المُصرُّ سيُلقى في نار جهنم، قال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد} [ق: 24]، أناشدك الله يا من كان عنيداً ومصرّاً على الفساد أن تتوب إلى الله تعالى، فأنا لك ناصح أمين إن شاء الله تعالى.

خامساً: المفسد المُصرُّ سيرهق صعوداً، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدَّثر: 16ـ17]، وهذا سيكون في سقر، قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَر * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَر * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} [المدثر: 26ـ30].

أيها المفسد لا تكن عنيداً لآيات الله تعالى، اترك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، اترك الغيبة والنميمة، اترك الفساد بين الشعب والحكومة، كن همزة وصل لا همزة قطع، لا تكن سبباً في إبعاد الأبناء عن الآباء، وفي إبعاد الأزواج عن الزوجات، ولا تكن سبباً في إدخال عبدٍ السجن بغير حق.

سادساً: اسمع أيها الفاسد المُفسد المُصرُّ، إلى بعض أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:

1ـ يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) رواه الإمام أحمد. فلا تكن مصراً على الفساد، سواء كنت من الشعب أو من الحكومة.

2ـ يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، فَيَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَالْمُصَوِّرِينَ) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ارحم نفسك، فوالله إنك لا تطيق نار جهنم.

3ـ يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا) رواه أبو داود. فلا تكن عنيداً مصراً على الفساد والإفساد.

الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة:

يا عباد الله، قولوا لهذا الفاسد المفسد مهما كان وضعه، ومهما كانت منزلته: إن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (الإصرار على الذنوب يجعل صغيرها كبيراً في الحكم والإثم، فما الظن بالإصرار على كبيرها).

يا عباد الله، إن الله تعالى أخفى رضاه في طاعته، وسخطه في معصيته، فلا تستهينوا بالذنوب صغيرها وكبيرها.

لا تغترَّ أيها المُسامح:

يا عباد الله، هناك الكثير من المفسدين وقعوا في الغرور، وظنوا أنهم مُسَامحون، ونسوا قول الله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].

يقول أبو الفرج بن الجوزي: (لا ينبغي أن يغترّ مسامَح فالجزاء قد يتأخّر، ومن أقبح الذّنوب الّتي قد أعدّ لها الجزاء العظيم، الإصرار على الذّنب).

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيها الإخوة المؤمنون: أتوجَّه بنصيحتي إلى كلِّ مفسد من المسؤولين ومن الشعب، أتوجَّه إلى نفسي أولاً وإلى كلِّ واحد منكم وأقول:

أخي الكريم لا تكن مصرّاً على الفساد وعلى الإفساد، وتُب إلى الله تعالى قبل أن تندم، ولا ينفعك الندم، واسمع إلى حديث دُلف.

عن دلف بن أبي دلف قال: «رأيت كأنّ آتيا أتى بعد موت أبي فقال: أجب الأمير. فقمت معه فأدخلني دار وحشة وعرة سوداء الحيطان، مقلّعة السّقوف والأبواب، ثمّ أصعدني درجاً فيها، ثمّ أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النّيران، وإذا في أرضها أثر الرّماد، وإذا أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دلف؟ قلت: نعم- أصلح اللّه الأمير- فأنشأ يقول:

أبلغن أهلنا ولا تُخْفِ عنهم *** ما لقينا في البرزخ الخفّاق

قد سُئلنا عن كلّ ما قد فعلنا *** فارحموا وحشتي وما قد ألاقي

أفهمت؟ قلت: نعم.

يا عباد الله، احفظوا قول الله عز وجل في حقِّ آل فرعون الذي طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} [غافر: 46].

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **