8ـ كلمة شهر شوال: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا

 

كلمة شهر شوال لعام 1428هـ

إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيها الإخوة الأحبة الكرام، بدايةً: كل عام وأنتم وأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بألف خير وعافية، ونرجو الله تعالى أن نكون من المقبولين عند الله عز وجل، وأن نكون ممن أعتق الله رقابهم من النار.

إخوتي في الله: سلفنا الصالح كانوا يهتمون بقبول العمل أكثر من اهتمامهم بالعمل، وكانوا يخافون من رد العمل بعد القيام به، قال تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}. وكان سيدنا علي رضي الله عنه يقول: يا ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومنالمحروم فنعزيه. ولكن من تمام رحمة الله فينا أن جعل علاماتٍ لقبول الطاعات، فمن رآها يستبشر بقبول العمل إن شاء الله تعالى، وإلا فليتدارك أحدنا نفسه.

على سبيل المثال: جعل الله علامة قبول الصلاة، الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. وجعل علامة قبول الصيام، التقوى، قال تعالى: {لعلكم تتقون}. وجعل علامة قبول ذكر الله تعالى، طمأنينة القلب، قال تعالى: {الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. وجعل علامة الاستقامة عامة في الظاهر والباطن، تنزل الملائكة، قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}.

فيا أيها الإخوة الكرام: أُمرتم بالصيام فصمتم، وأمرتم بالقيام فقمتم، ونرجو الله أن تكونوا ونحن معكم ممن قبض الجائزة يوم الفطر، وعاد إلى رحله راشداً، ومن عاد إلى رحله راشداً ، أقول: لا بدّ إلا وأنه عاد وهو عازم على الاستقامة بعد شهر رمضان كما كان في شهر رمضان وزيادة. والاستقامة هي كناية عن التمسك بأمر الله فعلاً وتركاً، وأن يجمع العبد بين أداء الطاعة واجتناب المعصية، والله تعالى يقول: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}.

1. استقاموا على أن الله تعالى ربهم وحدهم.

2. استقاموا على طاعته وأداء فرائضه.

3. استقاموا على إخلاص الدين والعمل به إلى الموت.

4. استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم.

5. استقاموا سراً كما استقاموا جهراً. فالاستقامة هي طريق النجاة، قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون}. فمن أراد النجاة، والنجاح، والفلاح، وتنزل الملائكة عليه بالبشارة:

1. بعدم الخوف مما هو عليه آت.

2. وبعدم الحزن مما هو مفارقه.

3. وبجنة عرضها السماوات والأرض.

4. وولاية الملائكة له في السماء والأرض.

5. وبنعيم ما رأته عين ولا سمعته أذن، فعليه بالاستقامة. وأصل الاستقامة استقامة القلب، لأنه إذا استقام القلب استقامت الجوارح، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه البخاري.

فإذا لم يلتفت القلب لغير الله تعالى، وكان مقبلاً عليه لا على غيره، يخشاه، ويجله، ويهابه، ويحبه، ويريده، ويرجوه، ويدعوه، ويتوكل عليه، ويعرض عما سواه، واستقام القلب على ذلك، عندها تستقيم الجوارح كلها على طاعته، لأن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده. وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، لأنه ترجمان القلب والمُعِّبر عنه.

فالاستقامة هي كلمة جامعة للدين كله، تتعلق بالأقوال والأفعال والنيات، ولهذا أمر ربنا جل جلاله نبينا صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه بالاستقامة، فقال: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}. وقال له: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير}. وأمر الأمة بقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. وبيّن مهمّة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون}.

ثم أقسم ربنا جل جلاله بأن نبيه صلى الله عليه وسلم على صراط مستقيم فقال: {يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم}. فالله تعالى هو الهادي والمعين على الاستقامة، قال تعالى: {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. والله تعالى بيَّن لمن يهدي إلى الاستقامة، بقوله تعالى: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً * وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً * ولهديناه صراطاً مستقيماً}. وبقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً * فأما الذين آمنوا واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}. وبقوله تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}. فالله تعالى يهدي للاستقامة ويعين عليها، لمن سمع الموعظة، ولمن آمن به واعتصم به، ولمن تمسك بالقرآن العظيم. لذلك طلب منا أن نكثر من الدعاء بالهداية إلى الاستقامة فقال معلماً لنا: {مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم}. ونبه العقلاء بقوله: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم}.

ونبه العقلاء بأن الصارف لهم عن الاستقامة إنما هو الشيطان، لأنه جالس على طريق الاستقامة لصرفهم عنها، فقال تعالى حكاية عن الشيطان: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}. وقال عنه: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منه المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}.

لذلك يعاتب ربنا عز وجل العقلاء بقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً}. هل يعقل هذا أن يتخذ هذا العدو ولياً من دون الله؟ هل يعقل أن يصغي إليه عاقل وهو يعلم بأنه يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير؟ ألم يعلم العقلاء قول الله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}.

فيا إخوتي في الله وأحبائي: عليَّ وعليكم بالاستقامة بعد شهر رمضان كما كنا مستقيمين فيه، استقيموا على صلواتكم في الجماعة الأولى. استقيموا على النوافل من صلاة الضحى والأوابين وقيام الليل والتهجد. استقيموا على حفظ السمع والبصر والفؤاد، استقيموا على هذه العهود الرمضانية التي ذكرت نفسي وإياكم بها، استقيموا ظاهراً وباطناً سراً وجهراً على شريعة الله عز وجل، وتذكروا قوله تعالى وهو يخاطب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.

أُذكِّر نفسي وإياكم يا إخوتي ببعض أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحضنا على الاستقامة:

1. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) رواه ابن ماجه.

2. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (استقيموا ونِعِمَّا إن استقمتم، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) رواه ابن ماجه.

3. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) رواه الترمذي. ومعنى تكفر اللسان: تذل له وتخضع لأمره.

4. عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم) رواه مسلم.

5. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه) رواه أحمد.

ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلوكه أن ندعو الله تعالى بالدوام على الاستقامة، عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). رواه مسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم سيدنا علياً رضي الله عنه هذا الدعاء، عن أبي بردة عن علي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: اللهم اهدني وسدِّدني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم). رواه مسلم.

وأخيراً أقول: يا أحبتي في الله أعظم كرامة هي الاستقامة. فنسأل الله تعالى أن يكرمني وإياكم بالاستقامة ظاهراً وباطناً، سراً وجهراً حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، وتذكروا قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. اللهم أمتنا على كمال الاستقامة حتى نسعد سعادةً لا شقاوة بعدها بفضل منك وكرم. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.