45ـ مع الحبيب المصطفى: الوصايا الربانية للحبيب صلى الله عليه وسلم(1)

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

45ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد اصطَفَى اللهُ عزَّ وجلَّ هذهِ الأمَّةَ لِيَكونَ لها الشَّرَفُ في حَملِ رِسالَةِ القُرآنِ العَظيمِ للنَّاسِ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾. وجَعَلَها خَيرَ الأمَمِ إذا قامَت بالمَهِمَّةِ التي أُخرِجَت من أجلِها، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.

ومن تمامِ فَضلِ الله تعالى على هذهِ الأمَّةِ أنْ جَعَلَ سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُسوَةً وقُدوَةً لها في كَيفِيَّةِ التَّبليغِ، وكَلَّفَهُم بذلكَ بِقَولِهِ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾.

وحَذَّرَ الأمَّةَ من الابتِداعِ إنْ كانَت صادِقَةً في مَحَبَّةِ الله تعالى، وكانَت حَريصَةً على مَحَبَّةِ الله تعالى، فقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾. وقال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد وَجَّهَ اللهُ تبارَكَ وتعالى الدُّعاةَ إلى الله تعالى إلى السَّبيلِ الأقوَمِ والأصلَحِ لِدَعوَةِ النَّاسِ إلى الله تبارَكَ وتعالى، وذلكَ من خِلالِ وصايا وَجَّهَها ربُّنا عزَّ وجلَّ لسيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

الوصِيَّةُ الرَّبانِيَّةُ الأولى للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد اصطَفَى اللهُ عزَّ وجلَّ سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَكونَ خاتَمَ الأنبِياءِ والمرسَلينَ، ولِيَكونَ رسولَ الله تعالى إلى الخَلقِ أجمعينَ، ولِيُبَلِّغَهُم رِسالَةَ الله تعالى التي تَحمِلُ في طَيَّاتِها الرِّفقَ واللِّينَ واليُسرَ والرَّحمَةَ للنَّاسِ أجمعينَ، وجَعَلَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ رَحمَةً للعالمينَ.

وإلى جانِبِ هذا الاصطِفاءِ وَجَّهَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ في آخِرِ سورةِ الحِجرِ بِتِسعِ وصايا يُعالِجُ بها مَوقِفَ أئِمَّةِ المشرِكينَ منهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ومن دَعوَتِهِ، ويُعالِجُ بها نَفسَهُ التي تُؤلِمُها شَتيمَتُهُم، واستِهزاؤُهُم به، وهذهِ مُوَجَّهَةٌ لِكُلِّ داعٍ إلى الله تعالى من أمَّتِهِ.

﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾

فالوَصِيَّةُ الأولى هيَ الصَّفحُ الجَميلُ، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أمَرَ اللهُ تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالصَّفحِ الجَميلِ، وهوَ الإعراضُ عن المُسيءِ وعَدَمُ مُقابَلَتِهِ بِمِثلِ عَمَلِهِ، بل يُقابِلُ الإساءَةَ بِوَجهٍ طَلْقٍ سَمْحٍ، لا تَظهَرُ عليهِ علاماتُ الغَضَبِ أو الغَيظِ أو الكراهِيَةِ، وبِإبقاءِ الكلامِ عادِيَّاً لا تَظهَرُ فيه أماراتُ الاضطِرابِ، بل بِعَدَمِ شَغلِ القَلبِ بِرَغَباتِ الانتِقامِ.

الصَّفحُ صَعبٌ سَهلٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الصَّفحَ الجَميلَ أمرٌ صَعبٌ على النَّفسِ، ولكنَّهُ هَيِّنٌ سَهلٌ على من تَدَبَّرَ قَولَهُ تعالى: ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾. تَذَكَّر بأنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وكُلَّ آتِ قَريبٌ.

الصَّفحُ هَيِّنٌ سَهلٌ على من عَرَفَ النَّتيجَةَ، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لسيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «فوالله لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» رواه الشيخان عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَيِّنٌ سَهلٌ على من عَرَفَ حَقيقَةَ الرِّسالَةِ التي جُبِلَت على الرَّحمَةِ بالعِبادِ، لأنَّهُ لا يُمكِنُ أن أدعو إلى هذهِ الرِّسالَةِ بأسلوبٍ فَظٍّ غَليظٍ، وإلا وَقَعتُ في التَّناقُضِ.

هَيِّنٌ سَهلٌ على من عَرَفَ قَولَ الله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.

لا يَجزي بالسَّيِّئةِ السَّيِّئةَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَحَلَّى سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بهذا الخُلُقِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الله الْجَدَلِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِهِ؟

قَالَتْ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً وَلَا سَخَّاباً بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يُجْزِئُ بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ.

من يَمنَعُكَ منِّي؟

أيُّها الإخوة الكرام: من مَظاهِرِ الصَّفحِ عِندَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ لم يَقتُل الذي تَسَلَّلَ إليهِ خُفيَةً، وأخَذَ سَيفَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ نائِمٌ، وأرادَ اغتِيالَهُ، وهوَ يَقولُ لهُ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟

روى الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُم الْقَائِلَةُـ أي: وَسَطُ النَّهارِ وشِدَّةُ الحَرِّ ـ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ـ شجرٌ عظيمُ الشَّوكِ ـ فَنَزَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ ـ شجرةٌ ذاتُ شَوكٍ ـ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً.

فَإِذَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتاً ـ مَسْلُولاً ـ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللهُ (ثَلَاثاً).

وَلَمْ يُعَاقِبْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ.

أيُّها الإخوة الكرام: لا يَستَطيعُ هذا الصَّفحَ إلا من أيقَنَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾. لا تَفصِلوا الدُّنيا والواقِعَ المَريرَ الذي تَعيشُهُ الأمَّةُ اليومَ عن يومِ القِيامَةِ، وتَذَكَّروا قَولَ الله تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُون﴾. لو كانَ الظَّالِمُ مُؤمِناً بِيَومِ القِيامَةِ لما اجتَرَأَ على الظُّلمِ، أفلا تَحمَدوا اللهَ تعالى على نِعمَةِ إيمانِكُم بالله واليومِ الآخِرِ؟!

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هيَ الصَّفحُ الجَميلُ، لأنَّ الصَّفحَ يُزيلُ أثَرَ الضَّغائِنِ، ويَجعَلُ ألَدَّ الأعداءِ يَدخُلُ في دِينِ الله تعالى، وهوَ من مُستَلزَماتِ الإحسانِ الذي هوَ أعلى دَرَجاتِ الإيمانِ.

الصَّفحُ يُقَوِّي رابِطَةَ التَّآخي بينَ أفرادِ المُجتَمَعِ، ويَجعَلُهُم مُتَحابِّينَ مُتَّحِدينَ، والأمَّةُ التي يَتَحَلَّى مُعظَمُ أفرادِها بالصَّفحِ تَكونُ سَعيدَةً في الدُّنيا والآخِرَةِ، وذلكَ فَضْلُ الله يُؤتيهِ من يَشاءُ. اللَّهُمَّ أكرِمنا بذلكَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 6/رمضان/1434هـ، الموافق: 15/تموز / 2013م